الوقت- في مشهد يعيد إلى الأذهان سنوات طويلة من الجرائم الممنهجة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، انتشر في الأيام الأخيرة مقطع مصوّر يوثّق لحظة إعدام ميداني لشاب فلسطيني أعزل في مدينة نابلس بالضفة الغربية، الضحية هو رامي الکخن، شاب يبلغ من العمر ثلاثين عامًا، جرى اغتياله بدم بارد وعلى مرأى من العالم، في عملية صادمة نفذها أحد عناصر وحدة "المستعربين" بزي مدني.
في المقطع المصوّر الذي نشرته وسائل إعلام فلسطينية وعالمية، يظهر الشاب وقد رفع يديه في الهواء في إشارة واضحة إلى الاستسلام، ومع ذلك، لم تتردد يد الجندي المتخفي في إطلاق النار المباشر عليه من مسافة قريبة، ما أدى إلى استشهاده على الفور، الحادثة أثارت موجة غضب عارمة في الشارع الفلسطيني وعلى منصات التواصل الاجتماعي، كما وضعت مجددًا مزاعم الاحتلال حول "التهديدات الأمنية" في دائرة الاتهام.
لكن، ما الذي يجعل هذه الحادثة مختلفة أو متكررة في ذات الوقت؟ وما هو السياق التاريخي لهذه الجرائم؟ ولماذا تتكرر هذه المشاهد الدموية في مدن مثل نابلس وجنين وطولكرم؟ للإجابة على هذه الأسئلة، لا بد من العودة قليلًا إلى الوراء، وربط هذا المشهد بمسار طويل من القتل والإرهاب الممنهج الذي تمارسه "إسرائيل" منذ عقود.
من محمد الدرة إلى رامي الکخن: تسلسل لجرائم القتل العلني
ربما لا يمكن الحديث عن الإعدامات الميدانية دون استحضار صورة الطفل محمد الدرة، الذي اغتالته رصاصات جنود الاحتلال في عام 2000 بينما كان يحتمي خلف والده في غزة، هذه الصورة التي هزّت العالم يومها، شكّلت لحظة فارقة في إدراك مدى عنف الاحتلال، لكنها لم تُوقف المسلسل الدموي.
منذ تلك اللحظة، سارت آلة القتل الإسرائيلية في اتجاه أكثر وقاحة وتجاهلًا للقانون الدولي، فأعداد الفلسطينيين الذين تم إعدامهم ميدانيًا أو في عمليات اغتيال أو قصف عشوائي لم تتوقف يومًا، بل تصاعدت مع كل مرحلة سياسية أو أمنية تمر بها المنطقة، في عام 2015، شهدت الضفة الغربية أيضًا موجة من عمليات القتل العلني، حين أُعدم عشرات الشبان الفلسطينيين عند الحواجز العسكرية أو خلال المداهمات الليلية تحت ذريعة "محاولة طعن".
اليوم، بعد مرور أكثر من عقدين على استشهاد محمد الدرة، نرى في إعدام رامي الکخن نفس السيناريو يتكرر: فلسطيني أعزل، مشهد مسجل، تبرير رسمي إسرائيلي، وصمت دولي مدوٍ.
الضفة الغربية في مرمى النيران: تصعيد منظم ومتعدد الأوجه
منذ السابع من أكتوبر 2023، ومع انطلاق العدوان الإسرائيلي الشامل على غزة، شُنّت بالتوازي حملة شرسة على الضفة الغربية، وخاصة في مدن نابلس، جنين، وطولكرم، هذا التصعيد لم يكن عفويًا ولا وليد اللحظة، بل جاء ضمن استراتيجية تهدف إلى ضرب مراكز القوة والاحتضان الشعبي للمقاومة.
وفقًا لتقارير منظمات حقوقية فلسطينية ودولية، استشهد أكثر من 900 فلسطيني في الضفة الغربية خلال الأشهر الماضية، بينهم عشرات النساء والأطفال، كما تم اعتقال ما يزيد على 17 ألف شخص، غالبيتهم ضمن ما يُعرف بـ"الاعتقال الإداري" دون تهمة أو محاكمة، عمليات الاقتحام الليلية، التصفية الجسدية، تفجير المنازل، وتخريب البنية التحتية تحولت إلى مشهد يومي مألوف.
إلى جانب ذلك، لعب المستعربون – وهم عناصر القوات الخاصة المتخفين بملابس مدنية – دورًا محوريًا في تنفيذ عمليات التصفية المباشرة، مثلما حدث في حالة رامي الکخن، هؤلاء يعملون ضمن وحدات تدريبية مخصصة تُدرب على التوغل في البيئات الفلسطينية، وغالبًا ما يتسببون في إراقة الدماء تحت ذرائع أمنية كاذبة.
لماذا نابلس وجنين وطولكرم؟
تُطرح كثيرًا تساؤلات حول أسباب تركّز عمليات الاحتلال وجرائمه في مدن محددة من الضفة الغربية، وعلى رأسها نابلس وجنين وطولكرم، لفهم هذا التوجه، لا بد من النظر إلى الخلفية الجغرافية، الديموغرافية، والسياسية لهذه المناطق.
1.نابلس:
تعد نابلس من أقدم وأكبر مدن شمال الضفة، وتتميز بكثافتها السكانية العالية، إضافة إلى وجود مجموعات مقاومة نشطة مثل "عرين الأسود" التي تشكّلت خلال السنوات الأخيرة كرد فعل على تصاعد القمع الإسرائيلي، موقع المدينة الجبلي وطبيعة أزقتها الضيقة تجعل من الصعب على قوات الاحتلال تنفيذ عملياتها دون مقاومة، ما يجعلها هدفًا دائمًا.
2. جنين:
وُصفت في أكثر من مناسبة بـ"معقل المقاومة في الضفة الغربية"، مخيم جنين تحديدًا يشكل رمزًا للصمود والمقاومة المسلحة، وقد شهدت المدينة عمليات قصف بطائرات مسيّرة، في سابقة خطيرة تعكس نوايا الاحتلال في فرض نموذج "غزة مصغرة" في الضفة.
3. طولكرم:
على الرغم من هدوئها النسبي مقارنة بجنين ونابلس، إلا أن طولكرم تقع في موقع استراتيجي يفصل بين شمال الضفة والوسط، وتشهد مؤخرًا تناميًا لعدد من قوات المقاومة المحلية، ما دفع الاحتلال لتكثيف عملياته فيها.
ما يجمع هذه المدن الثلاث هو الثقل الشعبي للمقاومة والطابع الوطني الجامع الذي يرفض التنسيق الأمني ويصعّب على الاحتلال بسط سيطرته الكاملة.
إعدامات بغطاء سياسي وصمت دولي
ما يضاعف من خطورة هذه الجرائم هو الغطاء السياسي الذي تحظى به من قبل حكومة الاحتلال، وبشكل خاص الحكومة اليمينية المتطرفة بقيادة بنيامين نتنياهو وبن غفير وسموتريتش، هذه الحكومة لا تكتفي بتبرير الجرائم، بل تحرّض عليها بشكل مباشر، وتمنح جنودها الضوء الأخضر لاستخدام أقصى درجات العنف، حتى ضد المدنيين العزل.
في المقابل، فإن الصمت الدولي، وغياب المحاسبة الحقيقية، شجّع الاحتلال على المضي قدمًا في سياسة الإعدامات الميدانية، فرغم التوثيق المصوّر، والمطالبات المتكررة بتحقيقات دولية، لا تزال "إسرائيل" تتعامل مع القانون الدولي كأداة انتقائية، لا تُطبَّق إلا على خصومها.
الأخطر من ذلك أن بعض الدول الغربية – التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان – تبرر هذه الجرائم تحت بند "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، متجاهلة أن القتل العمد لشخص أعزل مرفوع اليدين، هو جريمة حرب وفقًا لاتفاقيات جنيف.
إلى متى؟
إن إعدام رامي الکخن ليس حادثًا فرديًا، بل جزء من بنية سياسية وأمنية وعقائدية تتغذى على إنكار وجود الآخر، وتجعل من الفلسطيني هدفًا مشروعًا حتى وهو أعزل، وإنّ ما يجري في الضفة الغربية، بالتوازي مع المجازر المتواصلة في غزة، يكشف أن الاحتلال لا يفرّق بين جغرافيا وأخرى، بل يسعى إلى سحق كل ما يُمثّل الحياة والمقاومة والهوية الفلسطينية.
اليوم، بعد أكثر من سبعة أشهر من الحرب المفتوحة، بات واضحًا أن "إسرائيل" تدير معركة وجود، لكنها تفعل ذلك من خلال أدوات الفناء والإبادة، لا السلام، وما دام المجتمع الدولي يكتفي ببيانات القلق، فإنّ رامي لن يكون الأخير، ولن تكون نابلس آخر ساحات الجريمة.
لكن كما كانت جنين، ونابلس، وطولكرم – ولا تزال – مراكز للصمود، فإن دماء الشهداء ستظل تنبت مقاومة جديدة، وتُبقي القضية حيّة في وجدان الشعوب، مهما حاولوا كتم الصوت، وإخفاء الصورة.