الوقت- في خضمّ التوترات المتصاعدة في الشرق الأوسط، وجّهت "إسرائيل" ضربات جوية مباشرة إلى مواقع حيوية في اليمن، من بينها مطار صنعاء الدولي وميناء الحديدة على البحر الأحمر، وذلك ردًا على هجوم صاروخي يمني استهدف مطار بن غوريون في تل أبيب مطلع مايو الجاري، هذه الهجمات المتبادلة تشير إلى تحول مهم في طبيعة الصراع الإقليمي، مع انخراط "إسرائيل" المباشر في ساحة كان يُنظر إليها في السابق كجبهة جانبية، لكنها باتت الآن تمثل نقطة ارتكاز جديدة في المعادلة الاستراتيجية للصراع.
التصعيد لم يأتِ في فراغ، بل يتزامن مع تغيّر ملحوظ في الموقف الأمريكي، حيث أفادت تقارير إعلامية، من بينها تقرير لوكالة أسوشيتد برس (4 مايو 2025)، بأن الولايات المتحدة توصلت إلى اتفاق غير رسمي مع الحكومة اليمنية يقضي بوقف مؤقت للهجمات على السفن الأمريكية في البحر الأحمر مقابل تجميد واشنطن لعملياتها العسكرية هناك، لكن هذا الاتفاق لم يشمل السفن الإسرائيلية ولا المصالح الإسرائيلية المباشرة، ما سمح لليمن بمواصلة استهداف سفن الشحن المرتبطة بـ"إسرائيل"، بل توسيع نطاق الرد ليصل إلى عمق الأراضي المحتلة.
الهجوم اليمني الأخير على مطار بن غوريون، الذي أسفر عن إصابة أربعة أشخاص وتعليق مؤقت لحركة الملاحة الجوية، حمل رسائل سياسية وأمنية تتجاوز البعد العسكري التقليدي، وقد ردّت "إسرائيل" على ذلك بتنفيذ غارات جوية على البنية التحتية الحيوية في صنعاء والحديدة، موقعة عشرات الضحايا المدنيين، بينهم نساء وأطفال، وتسببت في تضرر مرافق مدنية حيوية كمحطات الكهرباء ومرافق الميناء، وفق ما نقلته قناة الجزيرة (6 مايو 2025).
تأتي هذه التطورات في وقت حساس للغاية إقليميًا ودوليًا، فالحرب في غزة لا تزال مستعرة، والضغوط تتصاعد على الحكومة الإسرائيلية داخليًا بسبب إخفاقاتها السياسية والأمنية، كما أن المفاوضات حول الملف النووي الإيراني دخلت مرحلة حرجة، وسط تعثر محاولات إحياء الاتفاق النووي وارتفاع منسوب التوتر بين طهران وتل أبيب، وفي هذا السياق، يبدو أن تل أبيب وجدت في اليمن ساحة مناسبة لإرسال رسائل مركّبة لعدة أطراف في آن واحد.
أول تلك الرسائل موجهة إلى طهران، فاليمن في العقلية الأمنية الإسرائيلية يُعتبر امتدادًا استراتيجيًا للنفوذ الإيراني، وبضرب البنية التحتية اليمنية، تسعى "إسرائيل" إلى القول لطهران إنها لن تسمح بخلق جبهات جديدة تهدد أمنها، بعد أن باتت تخوض مواجهات على جبهات غزة ولبنان وسوريا بشكل متزامن.
الرسالة الثانية موجّهة إلى واشنطن، الشريك الأمني الأوثق لتل أبيب. فاختيار إسرائيل هذا التوقيت لتوسيع عملياتها العسكرية في اليمن ليس مجرد قرار تكتيكي، بل هو مسعى مباشر لإحراج الإدارة الأمريكية وإجبارها على مراجعة قرارها بالانسحاب من الجبهة اليمنية. إذ ترى تل أبيب أن استمرار الضربات اليمنية ضد مصالحها دون تدخل أمريكي مباشر يُعدّ تهديدًا استراتيجيًا غير مقبول.
وقد عبرت مصادر أمنية إسرائيلية عن هذا التوجه بوضوح، ففي تصريح نُشر على موقع صحيفة "ذا صن" البريطانية (10 مايو 2025)، قال مسؤول أمني إسرائيلي إن إسرائيل "لا تعتبر الاتفاق الأمريكي مع اليمن مُلزمًا لها"، وإنها "ستواصل استهداف البنى التحتية.
على الجانب اليمني، جاءت ردود الفعل متناسقة مع الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي، فقد أكدت السلطات اليمنية أن الضربات التي استهدفت "إسرائيل" هي جزء من الرد الاستراتيجي على "العدوان الإسرائيلي على غزة"، مشيرة إلى أن استهداف العمق الإسرائيلي من قبل اليمن يأتي في سياق دعم "المقاومة الفلسطينية" وكسر الحصار المفروض على غزة، كما شددت على أن استهداف مطار صنعاء وميناء الحديدة يُمثّل انتهاكًا صريحًا لسيادة الدولة اليمنية، ويهدد الأمن الإقليمي والدولي، ولا سيما أمن الملاحة في البحر الأحمر.
وحسب ما نقلته الجزيرة (7 مايو 2025)، فقد أكد المتحدث باسم القوات المسلحة اليمنية أن "الهجمات ضد العمق الإسرائيلي ستستمر طالما استمر العدوان على غزة"، مشيرًا إلى أن اليمن يمتلك القدرة الصاروخية والتقنية على توسيع الرد إلى أهداف إسرائيلية أبعد، بما في ذلك موانئ حيفا وإيلات.
توسيع ساحة المواجهة ليشمل البحر الأحمر يثير مخاوف عميقة لدى المجتمع الدولي، حيث يُعد الممر أحد أهم الشرايين التجارية العالمية، وقد أقدمت عدة شركات شحن كبرى على وقف مرور سفنها في الممر الدولي القريب من السواحل اليمنية وتحويل مسارها إلى رأس الرجاء الصالح، وهو ما ترتب عليه ارتفاع في كلفة الشحن وتأخر في إيصال البضائع، وفق ما ورد في تقارير اقتصادية حديثة.
على الصعيد الداخلي الإسرائيلي، يبدو أن حكومة نتنياهو تسعى إلى توظيف التصعيد في اليمن للتغطية على أزمة غزة المتفاقمة وتراجع شعبية الحكومة في استطلاعات الرأي، إذ تُستخدم الهجمات الجوية على اليمن ضمن خطاب سياسي داخلي يؤكد على أن "إسرائيل تحارب على جميع الجبهات"، حسب تعبير وزير الدفاع الإسرائيلي في تصريحات صحفية أدلى بها عقب الغارات.
إلا أن هذه السياسة قد تنقلب إلى عبء استراتيجي في حال تصاعد الرد اليمني واتساع نطاق الضربات على الأهداف الإسرائيلية، وخاصة في ظل غياب دعم أمريكي صريح حتى الآن للعمليات الإسرائيلية في اليمن، الأمر الذي قد يضع "إسرائيل" أمام مأزق عسكري ودبلوماسي على حد سواء.
وفي ظل الجمود السياسي والدبلوماسي، وغياب بوادر جدية لأي وساطة دولية فعالة، تبقى المنطقة رهينة لهذا التصعيد المتبادل، إذ لا يبدو أن أياً من الأطراف مستعد حاليًا لتقديم تنازلات، ما يُنذر بجولات جديدة من المواجهة قد تتخطى حدود اليمن وغزة لتطال مجمل التوازنات الإقليمية في الشرق الأوسط.
وفي الختام، فإن التصعيد الإسرائيلي في اليمن لا يُعد مجرد رد عسكري تكتيكي، بل خطوة استراتيجية تهدف إلى خلط الأوراق في توقيت حرج، وإعادة تشكيل مسارات النزاع في المنطقة، لكن المخاطر المحيطة بهذه الخطوة قد تفوق مكاسبها، وخاصة إذا ما استمر الرد اليمني بالتصاعد وتوسيع بنك أهدافه داخل فلسطين المحتلة.