الوقت- في ظل استمرار جرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد سكان غزة المحاصرين، أعاد الهجوم بطائرة مسيرة على السفينة الإنسانية المعروفة باسم "أسطول الحرية" تسليط الضوء على أحد أكثر فصول السياسة العسكرية الإسرائيلية ظلمة: استخدام الجوع كسلاح حرب، فقد حذرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان من هذا الهجوم، مؤكدة أن منع إدخال المساعدات وتجويع المدنيين في غزة يرقى إلى جريمة حرب، وأن مرتكبيه يجب أن يُحاسبوا.
الهجوم على "أسطول الحرية": انتهاك صارخ للقانون الدولي
في الثالث من مايو 2025، أوردت وسائل الإعلام أن طائرات مسيّرة إسرائيلية استهدفت سفينة "أسطول الحرية" المحملة بالمساعدات الإنسانية والمتجهة نحو قطاع غزة لكسر الحصار المفروض عليه، وقع الهجوم في المياه الدولية قرب سواحل مالطا، ما أدى إلى اندلاع حريق في السفينة.
المتحدثة باسم المفوضية السامية لحقوق الإنسان، ثمين الخيطان، أعربت عن قلقها العميق إزاء هذا التصرف، وقالت: "ندعو إلى فتح تحقيق مستقل ومحايد وفعّال بشأن هذا الهجوم، ونؤكد أن المسؤولين عنه يجب أن يُحاسبوا"، وأشارت إلى أن الحصار المشدد المفروض على غزة يشكل "عقاباً جماعياً" وهو بموجب القانون الدولي الإنساني جريمة حرب.
سياسة تجويع ممنهجة ضد سكان غزة
وفقاً لتقارير منظمات دولية، فرضت "إسرائيل" منذ الـ 2 من مارس 2025 حظراً كاملاً على دخول أي نوع من البضائع أو المساعدات إلى قطاع غزة، ويُعد هذا الإجراء جزءاً من سياسة العقاب الجماعي والضغط على المقاومة الفلسطينية، حيث تشمل القيود حتى الطعام والدواء والوقود.
لقد حوّلت "إسرائيل" المساعدات الإنسانية إلى أداة حرب، حيث تسيطر بشكل كامل على المعابر البرية والبحرية والجوية، ما يجعل من شبه المستحيل على سكان غزة الحصول على الاحتياجات الأساسية، وفي ظل هذه الظروف، تمثل المبادرات الشعبية والدولية لإيصال المساعدات بحراً آخر أمل لملايين المحاصَرين.
سجل طويل من استهداف السفن الإنسانية
لم يكن الهجوم الأخير على "أسطول الحرية" الأول من نوعه، ففي عام 2010، شنت القوات الخاصة الإسرائيلية هجوماً دموياً على سفينة "مافي مرمرة" التركية، وهي جزء من أسطول الحرية، ما أدى إلى مقتل عشرة نشطاء أتراك وإصابة العشرات، وقع هذا الهجوم في المياه الدولية، وأثار موجة تنديد دولية، إلا أن "إسرائيل" لم تتحمل أي مسؤولية قانونية أو سياسية تجاهه.
منذ ذلك الحين، واصلت "إسرائيل" سياسة منع السفن المتجهة إلى غزة، فإما تعترضها وتصادرها أو تهددها بالقوة، ومن بين تلك السفن: "أميلي"، و"زيتونة"، و"روح راشيل كوري"، و"زيتونة أوليفا"، وجميعها كانت تحمل مساعدات إنسانية أو نشطاء سلام، لكنها لم تصل إلى غزة.
تقاعس المجتمع الدولي ومحدودية الردود
على الرغم من الإدانات الرسمية والبيانات الصادرة عن منظمات دولية، فإن المجتمع الدولي لم يتخذ إجراءات حاسمة لوقف هذه الانتهاكات، مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فشل تحت وطأة الفيتو الأمريكي في إصدار قرار ملزم لإنهاء الحصار أو توفير حماية للممرات الإنسانية البحرية.
هذا التقاعس شجّع الاحتلال على مواصلة تصعيد سياساته ضد المدنيين الفلسطينيين، إن منع الغذاء والماء والدواء والوقود، وحتى قصف السفن الإغاثية، يعكس استراتيجية ممنهجة تهدف إلى إخضاع السكان من خلال المعاناة.
إن استهداف السفن التي تحمل الغذاء والدواء لا يمثل فقط انتهاكاً للقانون الدولي، بل خرقاً فاضحاً للضمير الإنساني، يتحتم على المجتمع الدولي إنشاء آلية مستقلة وفعالة تحت إشراف الأمم المتحدة لضمان وصول المساعدات إلى غزة، ومحاسبة المسؤولين عن الهجمات على السفن المدنية في المياه الدولية.
وينبغي على الدول المدافعة عن حقوق الإنسان، وخصوصاً الأوروبية والدول الإسكندنافية، التي استضافت منظمات غير حكومية نشطة في هذا المجال، ممارسة ضغوط دبلوماسية وقانونية على الاحتلال لوقف هذه الانتهاكات المتكررة.
بينما يشهد العالم حرباً تُشنّ ليس فقط بالسلاح، بل بالجوع والحصار ومنع المساعدات الحيوية، فإن الهجوم على "أسطول الحرية" يثبت أن الاحتلال الإسرائيلي لا يتردد في استخدام أي وسيلة لتضييق الخناق على غزة، لكن كما أثبت التاريخ، فإن المبادرات الشعبية والحملات العالمية يمكن أن تُحدث فرقاً، بشرط أن تحظى بدعم إعلامي وسياسي واسع.
ليس من المبالغة القول إن استهداف المساعدات الإنسانية يمثل جزءاً من العقيدة العسكرية الإسرائيلية منذ عقود، فعلى مدى سنوات الحصار، دأبت "إسرائيل" على تحويل أي محاولة لتخفيف المعاناة الفلسطينية إلى "تهديد أمني"، بما في ذلك إدخال الأدوية، الأغطية، وحتى ألعاب الأطفال، وقد أظهرت تسريبات إعلامية أن هناك لوائح إسرائيلية تحدد السعرات الحرارية اليومية التي يجب أن "يسمح" بدخولها إلى غزة، وهي سياسة تشبه إلى حد بعيد "الهندسة الغذائية" لمعاقبة السكان جماعياً دون ترك بصمات مباشرة للموت.
هذا الاستخدام البيروقراطي والبارد للمساعدات كأداة عقابية يعكس منظومة تفكير ترى في كل فلسطيني عنصراً معادياً، حتى ولو كان طفلاً مريضاً أو امرأة حاملاً، إن تحويل العمل الإنساني إلى ساحة مواجهة، والاعتداء على متطوعين دوليين، يشير إلى رغبة متعمدة في تجريم التضامن مع غزة وتخويف المجتمع المدني العالمي من مجرد محاولة تقديم العون.
البحر أمل أخير: ضرورة حماية الممرات الإنسانية البحرية
في ظل إغلاق جميع المعابر البرية تقريباً، بات البحر يمثل الأمل الأخير لسكان غزة المحاصرين، ومع ذلك، فإن صمت المجتمع الدولي أمام الاعتداءات المتكررة على السفن الإنسانية يشجع الاحتلال على تحويل البحر إلى ساحة مغلقة بوجه الحياة، يجب إنشاء ممرات بحرية محمية دولياً تحت إشراف الأمم المتحدة، تتيح إيصال المساعدات بشكل دائم ومنتظم، بعيداً عن تحكم الاحتلال وتقديراته الأمنية الانتقائية.
كما يجب دعم مبادرات "أسطول الحرية" وسفن الإغاثة من خلال تغطية إعلامية شاملة، ومرافقة قانونية من محامين دوليين، وضمان وجود مراقبين دوليين على متنها، إن البحر المفتوح يجب أن يبقى رمزاً للحرية، لا أن يتحول إلى سجن مائي آخر يخنق سكان غزة.
الدفاع عن السفن الإنسانية اليوم، ليس دفاعاً عن غزة فحسب، بل دفاع عن القيم الأساسية للإنسانية، وسيتوجب عاجلاً أم آجلاً على العالم أن يعترف بأن الحصار والتجويع واستهداف المساعدات، هي خطوط حمراء يجب أن لا يُسمح بتجاوزها دون محاسبة.