الوقت – لم تكن زيارة وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير إلى واشنطن مجرد "رحلة دبلوماسية" كما يحاول ترويجها، بل كانت فصلاً جديدًا من فصول الانهيار الأخلاقي للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، واستمرارًا لتحالف العار بين واشنطن وتل أبيب.
ابن غفير، أحد أبرز رموز التطرف الصهيوني، حلّ ضيفًا غير مرحب به حتى داخل الكونغرس الأمريكي، ليُقابل بهتافات "فلسطين حرة" من مواطنين أمريكيين غاضبين، في مشهد يعكس عمق التناقض بين الإرادة الشعبية في أمريكا وبين توجهات الإدارة الحاكمة.
الزيارة التي لم تشهد أي لقاء رسمي مع مسؤولين من إدارة ترامب – رغم مزاعم مكتبه – تكشف عن أزمة حقيقية: "إسرائيل" ترسل وزيرًا عنصريًا يدعو علنًا لتطهير عرقي، وواشنطن تفتح له أبواب الكونغرس دون مساءلة أو محاسبة، لا يمكن قراءة هذه الزيارة إلا بوصفها دعمًا سياسيًا ضمنيًا لسياسات الاحتلال، ومحاولة يائسة لشرعنة وجهه الأكثر تطرفًا.
هتافات في وجه العنصرية... وواشنطن تواصل الصمت
لم تكن المظاهرات المؤيدة لفلسطين داخل مبنى الكونغرس مجرد استعراض رمزي، بل كانت صفعة مدوية لابن غفير وحكومته، عشرات النشطاء الأمريكيين صرخوا في وجهه: "فلسطين حرة"، في رسالة مفادها بأن صوت الشعوب لن يُقهر، وأن القيم الأمريكية التي تدّعي الديمقراطية والحرية تُفضح يومًا بعد يوم أمام هذا التواطؤ مع آلة القتل الصهيونية، لكن، كالعادة، الإعلام الغربي تعامل مع الحدث ببرود، لا خبر عاجل، ولا تغطية موسعة، وكأن مجرد إحراج مسؤول إسرائيلي بات "مشكلة أمن قومي" يجب طمسها، أما ابن غفير نفسه، فقد حاول تحويل الهتافات إلى "انتصار"، بادعاء أنها كانت دعمًا لحماس! هكذا تُقلب المعايير، ويُصنّف كل من يهتف للحرية بأنه "إرهابي"، بينما يُستقبل مجرمو الحرب كدبلوماسيين!
زيارات بلا معنى... وتطرف بلا رادع
رغم أن مكتب ابن غفير أعلن مسبقًا أنه سيلتقي بمسؤولين أمريكيين، فإن الحقيقة كانت مغايرة، لا لقاءات رفيعة، لا صور مع البيت الأبيض، ولا مؤتمرات صحفية مشتركة، فقط بعض اللقاءات مع نواب متطرفين مؤيدين لـ"إسرائيل"، كل ذلك يعكس حالة الحرج التي تشعر بها حتى الإدارات الغربية من التورط العلني مع شخصية مكروهة حتى داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، ومع ذلك، تستمر هذه الإدارات في توفير الحماية السياسية والدعم العسكري والاقتصادي لـ"إسرائيل"، في تجاهل تام للجرائم اليومية التي تُرتكب في الضفة الغربية وغزة، أي رسالة يوجهها الغرب اليوم عندما يصمت على زيارة ابن غفير؟ إنها رسالة واضحة: لا قيمة للفلسطيني، ولا حساب للمذابح، طالما أن القاتل يرتدي بزة رسمية ويحمل جواز سفر إسرائيلي.
من الكونغرس إلى غزة... سلسلة واحدة من الجرائم
لا يمكن فصل زيارة ابن غفير عن السياق الأوسع للعدوان على غزة والضفة، الرجل يدعو صراحة إلى قصف القطاع وتهجير سكانه، ويُعلن تأييده لقطع المساعدات الإنسانية، ويدعو لإقامة مستوطنات فوق أنقاض البيوت الفلسطينية، هو ليس استثناءً في حكومته، بل هو تعبير صريح عن جوهر سياساتها، وعندما يُستقبل في واشنطن، فهذا يعني أن أمريكا – رسميًا أو ضمنيًا – توافق على هذه الرؤية، من يقصف غزة، ويهدم البيوت على رؤوس الأطفال، لا يمكن أن يُعامل كضيف شرف في عاصمة تزعم الدفاع عن حقوق الإنسان، ومن يُصفق له أو يصمت عن جرائمه، يصبح شريكًا في الدم.
أمريكا و"إسرائيل"... تحالف على حساب القيم
ما جرى خلال هذه الزيارة يفضح مجددًا نفاق النظام الدولي، وازدواجية المعايير الأمريكية، فبينما تُحاصر دول وتُعاقب شعوب تحت ذريعة "انتهاك القانون الدولي"، يُحتفى بمجرم يضرب بالقوانين عرض الحائط، ويُشجَّع على الاستمرار.
ابن غفير ليس مجرد وزير، بل رمز لمرحلة كاملة من الفاشية السياسية الصهيونية، ووجوده في واشنطن ليس حدثًا عابرًا، بل مؤشراً على حجم الانحطاط في التعاطي الغربي مع قضايا المنطقة، أما من يظن أن هذه التحالفات ستبقى بلا ثمن، فليعد النظر في التاريخ، الشعوب لا تنسى، والعدالة وإن تأخرت، لا تسقط بالتقادم.
الإعلام الأمريكي.. ماكينة تبييض الاحتلال وتغليف العنصرية بالدبلوماسية
في قلب الرواية الرسمية الأمريكية، يقف الإعلام كحارس وفيلسوف للهيمنة، تغطية زيارة إيتمار بن غفير جاءت باهتة، انتقائية، وبعيدة عن أي محاولة لفهم رمزية الحدث أو خلفياته، لم يتناول الإعلام الأمريكي شخصية ابن غفير كمتطرف يدعو لحرق القرى الفلسطينية وتطهير الضفة، بل قدّمه كـ"وزير إسرائيلي مثير للجدل"، وكأن المشكلة في حدة آرائه لا في دمويتها، هذا الخطاب الإعلامي ليس وليد الصدفة، بل جزء من بنية متكاملة تعمل على نزع الإنسانية عن الفلسطينيين وتقديم الاحتلال كقضية "خلاف حدودي".
حين يهتف أمريكيون من قلب الكونغرس لفلسطين، لا تُسلَّط الأضواء على غضبهم، بل على "فوضويتهم"، أما ابن غفير، الذي يمارس الإرهاب السياسي يوميًا، فتصوره الكاميرات كمجرد مسؤول "يتعرض لاحتجاج"، هذا التواطؤ الإعلامي ليس أقل خطرًا من القنابل؛ فهو يصنع الوعي الزائف، ويُشَرعن التطهير العرقي بلغة مقبولة، وحين تسكت الصحافة عن الجرائم، فإنها لا تبقى مجرد ناقل، بل تصبح شريكًا، السؤال اليوم: إلى متى سيظل الإعلام الأمريكي ساحةً للتضليل، لا منصةً للحقيقة؟ وإلى متى سيُغلف القتل الإسرائيلي بورق الدبلوماسية الناعمة؟.
الشارع الأمريكي يتحرك.. هل بدأ التحول داخل الحليف التاريخي لـ"إسرائيل"؟
رغم الغطاء السياسي الهائل الذي توفره واشنطن لتل أبيب، إلا أن تزايد الأصوات المناهضة لـ"إسرائيل" داخل المجتمع الأمريكي بات يثير قلق صُنّاع القرار، مشهد طرد ابن غفير بهتافات "فلسطين حرة" لم يكن حادثًا معزولًا، بل جزءًا من موجة تتصاعد منذ سنوات، وتغذّيها صور المجازر في غزة، وحملات التضليل الفجة التي يمارسها الإعلام والسياسيون، الجامعات الأمريكية تشهد احتجاجات متزايدة، وحملات المقاطعة الثقافية والأكاديمية تتوسع، وأصوات داخل الكونغرس باتت تتحدث عن ضرورة وقف الدعم غير المشروط لـ"إسرائيل".
ما كان محظورًا قبل عقد من الزمن، بات اليوم مطروحًا للنقاش داخل التيار الليبرالي، وحتى بعض الدوائر الإعلامية بدأت تطرح تساؤلات عن جدوى التورط الأمريكي في حماية نظام فصل عنصري مكشوف، زيارة ابن غفير، بتطرفه الفج، لم تُقنع أحدًا، بل فضحت عمق الأزمة الأخلاقية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، هذا التحول البطيء في المزاج الشعبي الأمريكي قد لا يُثمر فورًا تغييرات سياسية، لكنه يشكّل حجر الأساس لتصدّع محتمل في "التحالف المقدس" بين واشنطن وتل أبيب، إذا استمر هذا الوعي في النمو، فقد يكون ابن غفير قد دقّ أول مسمار في نعش التأييد الأمريكي الأعمى لـ"إسرائيل".
في الختام، زيارة ابن غفير إلى واشنطن هي شهادة جديدة على تحالف الدم والدمار بين أمريكا و"إسرائيل"، لكنها أيضًا لحظة كاشفة عن تنامي الوعي الشعبي داخل الغرب نفسه، الهتافات التي صدحت داخل الكونغرس ليست نهاية القصة، بل بدايتها، ومع كل صوت يهتف "فلسطين حرة"، تتكسر صورة الزيف التي يحاول الإعلام تسويقها، لقد سقط القناع... والشارع يقول كلمته.