الوقت- بينما تسعى الاتفاقات الدولية لتحقيق تهدئة وإنهاء الصراع، يبرز نمط متكرر في سلوك الاحتلال الإسرائيلي خلال اللحظات الأخيرة قبل سريان وقف إطلاق النار، هذا السلوك يتسم باستغلال الثواني الأخيرة لتنفيذ هجمات مدمرة وواسعة النطاق، وكأنها محاولة لتحقيق مكاسب ميدانية أو إيقاع أكبر قدر من الأذى قبل الالتزام بشروط الاتفاق، ما يؤكد أن وقف إطلاق النار لا يعني نهاية المعاناة في غزة، بل هو بداية لها لكن بشكل آخر فهي تعمل بشكل صريح على منهجية تكريس مشاعر انعدام الأمن لدى المدنيين، حتى في لحظات التهدئة المفترضة وانتزاع أي شعور بالنصر.
جرائم الاحتلال تسبق التهدئة وتُسقط 26 شهيدًا في غزة
رغم دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ الساعة 6:30 (ت.غ)، ارتفع عدد الشهداء الفلسطينيين إلى 26 جراء هجمات إسرائيلية استهدفت أنحاء متفرقة من غزة، وفق الدفاع المدني الفلسطيني، وأوضح المتحدث محمود بصل أن القصف أسفر عن استشهاد 19 فلسطينيًا، بينهم 9 في محافظة غزة و6 بخان يونس، كما استُهدف مواطنون عائدون لمنازلهم بإطلاق نار مباشر من المسيرات الإسرائيلية.
فيما أطلقت قوات الاحتلال النار على مواطنين حاولوا العودة إلى منازلهم في رفح، ما أدى إلى وقوع إصابات، ومن جهة أخرى استمر إطلاق آليات الجيش الإسرائيلي نيرانها شرق حي الشجاعية والزيتون شرق محافظة غزة.
إضافة إلى ذلك، أفاد مصدر طبي باستشهاد 7 فلسطينيين إثر قصف مركبة بخان يونس، ورغم بدء التهدئة، استمر جيش الاحتلال بنسف المباني السكنية في النصيرات وقصف شرق الشجاعية، وفي ظل المأساة، أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي أن التنفيذ الكامل للتهدئة مرتبط بشروط إضافية على حركة حماس، ما يعكس تعنت الاحتلال واستغلاله للوضع الميداني.
سياسة الأرض المحروقة" تكتيك أخير
يقوم هذا النهج في الفكر النازي الصهيوني على تدمير البنية التحتية، مثل المدارس والمستشفيات واستهداف أكبر عدد ممكن من المدنيين، في الدقائق الأخيرة من الصراع.
تعود جذور سياسة الأرض المحروقة إلى الفكر الصهيوني الذي تأسس على مبدأ الهيمنة والسيطرة التامة على الأرض، وتجريد الشعب الفلسطيني من أي مقومات للبقاء أو الاستمرار، هذا النهج ليس وليد اللحظة، بل يرتبط برؤية إستراتيجية ترى أن تدمير البيئة المعيشية للفلسطينيين يُعزز تحقيق أهداف الاحتلال الإسرائيلي على المدى الطويل.
في حروبها على غزة، يظهر تطبيق كيان الاحتلال لسياسة الأرض المحروقة كجزء من منظومة أيديولوجية أوسع تهدف إلى قطع أي رابط بين الفلسطينيين وأرضهم، من خلال تدمير المنازل، الأراضي الزراعية، المدارس، وحتى المساجد، ترسل "إسرائيل" رسالة واضحة: الأرض لم تعد مكانًا آمنًا أو صالحًا للعيش، ما يدفع السكان إما إلى الرحيل أو التكيف مع حياة قاسية تنعدم فيها أبسط مقومات الكرامة الإنسانية.
في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، تُعتبر سياسة الأرض المحروقة جزءًا من مفهوم "حسم المعركة" من خلال إيقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوف العدو، سواء على المستوى العسكري أو المدني، العمليات التي تنفذها قوات الاحتلال الإسرائيلي في الدقائق الأخيرة من أي حرب أو قبل سريان اتفاقيات وقف إطلاق النار هي ترجمة واضحة لهذا الفكر، حيث يتم استغلال الوقت لتدمير أكبر عدد من المنازل والمنشآت، بهدف ترك ندوب عميقة تجعل أي محاولة للنهوض أو الإعمار تحديًا شبه مستحيل.
استغلال الفوضى والتعتيم الإعلامي
كيف يُستغل الضغط الزمني والتعتيم الإعلامي في الساعات الأخيرة لتنفيذ أعمال لا يمكن رصدها أو توثيقها بشكل فعال؟ وهل يؤثر ذلك على سردية الأحداث اللاحقة؟
في اللحظات الأخيرة قبل دخول اتفاقيات وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، تستغل قوات الاحتلال الإسرائيلي حالة الفوضى والتعتيم الإعلامي لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية دون رادع، هذه الإستراتيجية تعتمد على عاملين أساسيين: ضغط الزمن وصعوبة التوثيق، ما يُتيح لها تنفيذ عمليات تصعيدية تستهدف المدنيين، ثم التنصل من المسؤولية أو التخفيف من تداعياتها.
في الساعات الأخيرة التي تسبق وقف إطلاق النار، تكون وتيرة الأحداث متسارعة، والأنظار الدولية مركزة على التوصل إلى التهدئة، وتستغل "إسرائيل" هذا الإرباك لتنفيذ هجمات واسعة النطاق، غالبًا باستخدام القصف الجوي أو المدفعي المكثف.
تُشن هجمات متزامنة على أهداف متعددة، غالبًا تشمل أحياء مكتظة بالسكان، منشآت حيوية، ومراكز إيواء تابعة للأمم المتحدة، بالتركيز على المدنيين، ففي كثير من الأحيان، تأتي هذه الهجمات دون أي مبرر عسكري واضح، حيث يكون الهدف الوحيد هو إيقاع أكبر قدر من الخسائر البشرية والنفسية.
لماذا اللحظات الأخيرة؟
إفلات من المحاسبة: تدرك "إسرائيل" أن التغطية الإعلامية غالبًا ما تنخفض بعد إعلان وقف إطلاق النار، حيث ينشغل المجتمع الدولي بالنتائج السياسية للاتفاق، وليس بتوثيق الجرائم التي سبقته.
فرض واقع جديد: استغلال اللحظات الأخيرة يهدف إلى خلق واقع ميداني يصعب تغييره، مثل تدمير أحياء بأكملها أو تهجير آلاف السكان، ما يجعل العودة إلى الوضع السابق مستحيلة.
إرسال رسالة قوة وردع: تصعيد العنف في الدقائق الأخيرة يعكس رغبة "إسرائيل" في إيصال رسالة للفلسطينيين والمجتمع الدولي بأنها تظل الطرف الأقوى، القادر على استخدام القوة حتى اللحظة الأخيرة.
الآثار القانونية والأخلاقية
تسليط الضوء على رأي القانون الدولي في هذه الأفعال، وهل تُعتبر خرقًا للقوانين الإنسانية أو محاولات للإفلات من المحاسبة؟
أمثلة ميدانية موثقة
حرب 2008-2009 (الرصاص المصبوب): قبل ساعات من بدء وقف إطلاق النار، نفذت قوات الاحتلال الإسرائيلي قصفًا عنيفًا استهدف مدارس الأونروا ومناطق سكنية مكتظة، ما أسفر عن مقتل العشرات من المدنيين.
حرب 2014 (الجرف الصامد): في الساعات الأخيرة، شهدت مناطق مثل رفح هجمات عنيفة عُرفت باسم "مجزرة رفح"، حيث استهدفت قوات الاحتلال منازل مدنيين بعد إعلان نوايا التهدئة.
حرب 2021 (سيف القدس): استهدف القصف الجوي بشكل متزامن أبراجًا سكنية ومناطق مكتظة بالسكان قبل دقائق من سريان وقف إطلاق النار، ما أدى إلى وقوع عشرات الضحايا.
رسائل سياسية وراء "هدف الدقيقة 90"
تتعدد الرسائل السياسية وراء جرائم الاحتلال في اللحظات الأخيرة أبرزها يأتي بشكل رسالة تحدٍ من خلال تكريس صورة كيان الاحتلال كقوة قادرة على استخدام العنف بلا قيود، حتى في ظل التزامات التهدئة، تهدف هذه الجرائم إلى ردع المقاومة الفلسطينية وإظهار عجزها عن حماية المدنيين، ما يضعف الروح المعنوية للشعب الفلسطيني، كما تُستخدم لتوجيه رسائل للمجتمع الدولي بأن كيان الاحتلال الإسرائيلي سيبقى الطرف الأقوى والمتحكم في مسار الأحداث، دون خوف من المحاسبة أو الضغط الخارجي.
ختام القول
حكومة الاحتلال لا تكتفي بإدارة الصراعات العسكرية والسياسية، بل تحرص على ترسيخ معادلة ميدانية تُظهر فيها تفوقها، حتى لو كان ذلك على حساب أرواح المدنيين، هذا السلوك الممنهج يتطلب توثيقًا مستمرًا، وتحركًا دوليًا جادًا لوقف هذه الانتهاكات التي تضع الإنسانية جمعاء أمام اختبار أخلاقي جديد، فهي لا تنظر إلى وقف إطلاق النار كفرصة لتحقيق السلام، بل تستغله كغطاء لارتكاب المزيد من الجرائم، فالفوضى والتعتيم الإعلامي في اللحظات الأخيرة يوفران لها مساحة للإفلات من العقاب، ما يجعل الحاجة إلى توثيق هذه الجرائم ومحاسبتها أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.