الوقت - من جديد، تعود السلطة الفلسطينية إلى دائرة الجدل في الشارع الفلسطيني، بعد قرارها الذي وصف بـ"الصادم" بمنع الاحتفالات بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة بين "إسرائيل" وحركة حماس. هذا القرار، الذي دخل حيز التنفيذ ظهر يوم الأحد، أثار موجة من الغضب والانتقادات في مدن وقرى الضفة الغربية، وخاصة في ظل الأوضاع السياسية والأمنية المتوترة التي تعيشها المنطقة.
على الرغم من أن أهالي قطاع غزة احتفلوا بالاتفاق الذي أنهى أكثر من 470 يومًا من الحرب، إلا أن مشاهد الابتهاج لم تكن حاضرة في الضفة الغربية بالشكل المتوقع، والسبب؟ إجراءات السلطة الأمنية التي وصفت بـ"الصارمة" لمنع أي مظاهر احتفال أو تضامن مع "نصر غزة".
إن انتشار قوات الأمن الفلسطينية في مدن الضفة يعكس موقف السلطة الحذر تجاه أي مظاهر تأييد للمقاومة، وهو موقف أصبح يثير تساؤلات حول دوافعه الحقيقية، وخاصة أن "إسرائيل" نفسها كانت قد أصدرت قرارات مشابهة بمنع الاحتفالات في الضفة الغربية والقدس، فهل جاءت تعليمات السلطة استجابة لضغوط إسرائيلية أم إنها محاولة لضبط الشارع الفلسطيني ومنع أي تصاعد للحراك الشعبي؟
يأتي قرار منع الاحتفالات في ظل تصاعد الغضب الشعبي تجاه السلطة، وخاصة بعد حملتها الأمنية المكثفة على مدينة جنين ومخيمها منذ الـ 14 من ديسمبر الماضي.
جنين، التي أصبحت رمزًا للمقاومة، تعيش تحت حصار مزدوج، فمن جهة تحاصرها قوات الاحتلال، ومن جهة أخرى تشن السلطة حملات أمنية مكثفة، ما يزيد من حالة الاحتقان والغضب الشعبي.
وفي مخيم جنين، الذي استمر حصاره لأكثر من 43 يومًا، لم تمنع الإجراءات الأمنية سكانه من التعبير عن فرحتهم، إذ ارتفعت التكبيرات في المساجد، رغم القصف الجوي الإسرائيلي الذي أودى بحياة ستة أشخاص قبل يومين فقط.
قرار السلطة.. هل هو امتثال لـ"إسرائيل" أم خوف من صعود المقاومة؟
السلطة الفلسطينية تواجه اتهامات متزايدة بأنها تلعب دور "الحارس الأمين" لـ"إسرائيل" في الضفة الغربية، وخاصة بعد منعها الاحتفالات بوقف إطلاق النار في غزة، فإلى جانب قراراتها الأمنية، جاء قرار وزير الجيش الإسرائيلي يسرائيل كاتس، بمنع الاحتفالات بإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين في الضفة، ليؤكد التناغم الواضح في الإجراءات الأمنية بين الجانبين.
هذه السياسات تطرح تساؤلات جدية حول موقف السلطة من المقاومة، إذ يرى البعض أن موقفها المتشدد تجاه مظاهر الفرح في الضفة ليس فقط استجابة لضغوط إسرائيلية، وإنما أيضًا محاولة للحفاظ على سيطرتها على الشارع الفلسطيني، ومنع أي موجة جديدة من التأييد لحركات المقاومة، فالاحتفال بنصر غزة قد يعني بالنسبة للسلطة تصاعد النفوذ الشعبي لحماس والفصائل المسلحة، وهو أمر تخشى أن يتحول إلى تحدٍ مباشر لوجودها في الضفة.
ورغم أن السلطة بذلت جهدًا كبيرًا لقمع الاحتفالات، إلا أن إرادة الشارع كانت أقوى، فقد خرجت مسيرات عفوية في العديد من مدن وبلدات الضفة مثل نابلس، رام الله، الخليل، وسلواد، حيث علت الهتافات المؤيدة للمقاومة، وسُمعت التكبيرات من المساجد، في تعبير واضح عن حجم التضامن الشعبي مع غزة.
وفي مدينة نابلس، تركزت الاحتفالات في وسط المدينة، فيما شهدت بلدة عقربا جنوبها مسيرات بالسيارات، أما في رام الله، فهتف المتظاهرون بشعارات مؤيدة لحماس، مثل "كل بلادي مع حماس"، في مشهد يعكس حجم الفجوة بين السلطة والشارع الفلسطيني.
يبدو أن السلطة الفلسطينية تجد نفسها في موقف صعب، فهي من جهة تخضع لضغوط إسرائيلية وأمريكية لمنع أي تصعيد في الضفة، ومن جهة أخرى تواجه موجة غضب متزايدة من الشارع الفلسطيني، الذي بات يرى في سياساتها عائقًا أمام التعبير عن مشاعره الوطنية.
مدير مركز وطن للدراسات، معمر عرابي، أكد في تصريحات صحفية أن "الحاكم الفعلي للضفة الغربية هو وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش"، مشيرًا إلى أن السلطة الفلسطينية تعيش في "وهم" إذا اعتقدت أنها قادرة على بناء مشروع سلام مع الاحتلال، فحسب عرابي، فإن "إسرائيل" لم تعد تتحدث عن "السلام مقابل الأرض"، بل انتقلت إلى "السلام مقابل الاقتلاع"، ما يعني أن أي رهان على الحلول السياسية أصبح بلا جدوى.
في نهاية المطاف، يبقى السؤال الأهم: لماذا تخشى السلطة الفلسطينية احتفالات الضفة الغربية بوقف إطلاق النار في غزة؟ الإجابة تكمن في المعادلة السياسية المعقدة التي تحاول السلطة موازنتها، فهي تخشى أن تتحول هذه الاحتفالات إلى استفتاء شعبي على شرعيتها، وخاصة في ظل تنامي التأييد لحركات المقاومة في الشارع الفلسطيني.
وفي الوقت ذاته، لا تستطيع تجاهل الضغوط الإسرائيلية والأمريكية التي تسعى إلى إبقاء الضفة تحت السيطرة الأمنية المشددة.
لكن ما يظهر بوضوح من مشاهد الاحتفالات التي انتشرت رغم القمع، أن المزاج الشعبي في الضفة الغربية لم يعد يعبأ كثيرًا بسياسات السلطة، بل بات أقرب إلى تبني خطاب المقاومة كخيار استراتيجي في مواجهة الاحتلال، وهذا، في حد ذاته، مؤشر على تحولات عميقة قد تعيد رسم ملامح المشهد الفلسطيني في المرحلة المقبلة.