الوقت - استعرض السيد حسين آجرلو - الخبير في شؤون غرب آسيا والملف الإسرائيلي - المشهد السوري المستقبلي والخيارات المتاحة أمام القوى المهيمنة في دمشق، ويرى أن التحولات الجذرية في المستويات القيادية العليا تبقى احتمالاً وارداً، متوقعاً أن تواجه هيئة تحرير الشام اضطرابات هيكلية عميقة في المستقبل القريب.
کما سلّط الضوء على ديناميكيات العلاقة المعقدة بين الجماعات المسلحة وداعمها الإقليمي الرئيسي، تركيا، موضحاً أن الرئيس أردوغان يتبنى استراتيجيةً متوازنةً من خلال الحفاظ على مسافة استراتيجية من هيئة تحرير الشام مع الإبقاء على قوات الجيش الوطني، ما يعكس حالة عدم الثقة التركية تجاه الجولاني، كما يشير إلى أن التحديات الأمنية المتصاعدة في المناطق الجنوبية التركية، تمثّل عاملاً محفزاً محتملاً للتغييرات المستقبلية في المشهد السوري.
ووفقاً للدكتور آجرلو، فإن الوضع الراهن للدول المجاورة - تركيا ولبنان والأردن - والتي تفتقر إلى القدرات اللازمة للمساهمة الفعالة في إعادة إعمار سوريا وتنميتها بعد الدمار الشامل الذي خلفته الحرب، سيدفع النظام السوري المستقبلي نحو إعادة تشكيل تحالفاته وعلاقاته مع قوى دولية غير مجاورة، ما يرجح احتمالية عودة العلاقات مع إيران وروسيا في المستقبل المنظور، وفيما يلي النص الكامل للحوار مع السيد حسين آجرلو:
الوقت: التحولات الأخيرة في سوريا حبلى بأحداث أمنية متعددة ومتفرقة، فهل يمتلك النظام الجديد الحاكم في سوريا القدرة على إدارة هذا المشهد المتوتر؟
السيد حسين آجرلو: لقد أضحت سوريا، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، تحت وطأة النفوذ الأجنبي، حيث أقدمت الأطراف الفاعلة، من جماعات مسلحة والكيان الصهيوني، في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد، على احتلال أجزاء من الأراضي السورية بشكل صريح، وفي بلد كسوريا، لا سبيل لدحر هذا الاحتلال سوى المقاومة.
وبنظرة متأنية بعيداً عن الانفعالات الراهنة، يتجلى من خلال التجربة التاريخية للشعب السوري حساسيته المفرطة تجاه سيادته الإقليمية واستقلاله الوطني ومطامع جيرانه التوسعية، وعلى الرغم من تلقي نظام بشار الأسد عروضاً ومبادرات دولية متنوعة من المجتمع الدولي، ولا سيما خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، وبالأخص في مؤتمر الأناضول عام 2000، إلا أنه ظلّ متمسكاً برفض تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وكان موقفه هذا يحظى بتأييد شعبي واسع النطاق، ما شكّل ركيزةً أساسيةً في عدم إقامة العلاقات.
لقد نجحت سوريا في تحرير أراضيها من نير الاستعمار الفرنسي معتمدةً على المقاومة، وتحررت أرضها عبر نضال استقلالي امتدّ لعقود، وقد أظهر التاريخ أن التوجهات التي حظيت بتأييد جماهيري حاشد، كانت دائماً تلك المرتكزة على مبادئ الاستقلال والهوية الوطنية، إن الركيزة الأساسية للوحدة الوطنية في النسيج المجتمعي السوري المتعدد، تكمن في هذه الثقافة السياسية المتجذرة في وجدان الشعب، وعليه فإن عوامل كالقومية والوطنية، تمثّل روافد أساسية عززت الجذور الدينية والمذهبية لهذا الشعب، ما أسهم في تعزيز تماسكه ووحدته الوطنية.
ومن هذا المنظور، يتجلى التحليل الدقيق والعميق لسماحة السيد القائد في أعلی درجات الإحكام والواقعية، حيث يؤكد المشهد التاريخي أن سوريا قد اجتازت حقبةً عاصفةً بالغة التعقيد والاضطراب، عايشنا خلالها مرحلةً استثنائيةً كانت الانقلابات فيها حدثاً يومياً متكرراً، وما عزّز النسيج الوطني السوري وأسهم في رصّ صفوفه بشكل جوهري، هو تلك الأطماع التوسعية والمخططات الصهيونية المتتالية، وعلى رأسها الاحتلال الغاشم للجولان في عام 1967.
وفي قراءة متعمقة للمشهد، نجد أن احتلال الجولان شكّل المحفز الأساسي والعامل المحوري في تعزيز اللُحمة الوطنية السورية وتقوية أواصرها، والتي تطورت تدريجياً نحو حالة من الاستقرار والتماسك المجتمعي، وكما تجلت رؤية سماحة قائد الثورة في تحليله الاستشرافي العميق، يبدو جلياً أن الاحتلال سيشكّل مجدداً نقطة ارتكاز محورية وعامل قوة استراتيجي للشعب السوري، في مسيرة استعادة سيادته الوطنية وتعزيز وحدته المجتمعية، ولعل هذا المنعطف التاريخي سيكون بمثابة نافذة لدول الجوار، لإدراك عمق هذا البعد الجوهري في الشخصية الوطنية السورية بصورة أكثر وضوحاً وعمقاً.
الوقت: تشهد الساحة السورية في الآونة الراهنة موجةً من الاحتجاجات التي تقودها الأقليات الدينية في مناطق متفرقة، يصاحبها قمع صارخ للمحتجين يتجلى في عمليات إعدام ميدانية علنية، وهنا يُطرح السؤال المحوري: هل سنشهد تصعيداً في وتيرة هذه التوترات وحالة عدم الاستقرار، أم إنها ستخبو في المستقبل القريب؟
السيد حسين آجرلو: إن العامل الرئيسي الذي يدفع سوريا نحو دوامة عدم الاستقرار، يكمن في غياب التناغم والانسجام على المستوى السيادي بين مختلف الطوائف والتيارات الدينية، وبالنظر إلى الطبيعة الفسيفسائية المعقدة للنسيج المجتمعي السوري، يتضح جلياً أنه يستحيل على أي من هذه التيارات الدينية أو شبكات النفوذ، أن تنفرد بالسيطرة على كامل التراب السوري، فالنظام القادر على إدارة دفة الحكم في سوريا، هو ذلك الذي يمتلك المقومات اللازمة لضبط وإدارة هذا التنوع المجتمعي بكفاءة واقتدار.
ومن هذا المنطلق، نجح نظام حافظ الأسد ومن بعده وريثه بشار الأسد، في إرساء معادلة توازن دقيقة في المجتمع السوري وتوزيع مفاصل السلطة بشكل متوازن في هذا النسيج المجتمعي المتعدد، فعلى سبيل المثال، كانت الغالبية العظمى من تشكيلات الجيش السوري من أهل السنة، في حين هيمن العلويون على المؤسسات الأمنية، وهكذا تشكلت أركان نظام الأسد المختلفة، وحتى القرار الأممي 2254، الذي حظي بدعم غالبية المجتمع الدولي وقبلته الجمهورية الإسلامية مع بعض التحفظات، أكّد على ضرورة مشاركة كل الأطراف السورية في منظومة الحكم، وتشكيل حكومة جامعة تمثّل مختلف أطياف المجتمع.
إن المواجهات الراهنة التي نشهدها على الساحة السورية، ما هي إلا انعكاس للحالة الانفعالية المستجدة في البلاد، والتي إذا ما استمرت، فإنها ستؤدي حتماً إلى تقويض أركان الاستقرار في أرجاء سوريا.
الوقت – هل تتجاوز التحولات المرتقبة في المشهد السوري بأبعادها الاستراتيجية وتداعياتها المصيرية، ما تعكسه الصور والمقاطع المصورة المتداولة عبر منصات التواصل الاجتماعي في الوقت الراهن؟
السيد حسين آجرلو: تتميز الخارطة الديموغرافية السورية بتوزع كثيف للمكون العلوي في مناطق متعددة، ولا سيما في الشريط الساحلي وطرطوس واللاذقية، وصولاً إلى جنوب حمص وحماة، حيث تتمركز الأقليات العلوية التي سطّر تاريخها ملاحم من المقاومة الباسلة ضد أي محاولات للهيمنة أو التسلط، أياً كان مصدرها. وينسحب هذا النمط من الخصوصية المجتمعية على المناطق ذات الغالبية الدرزية، في حين يشهد النسيج المجتمعي السني، بشقيه الحضري والريفي، بما في ذلك التشكيلات القبلية المتوزعة في الشرق والغرب السوري، تباينات وتعارضات جوهرية في المصالح والتوجهات.
وعليه، فإن أي منظومة حكم مستقبلية في سوريا، ستجد نفسها أمام تحديات بالغة التعقيد، تستلزم امتلاك رؤية استراتيجية متكاملة وقدرات استثنائية لصهر هذا التنوع المجتمعي في بوتقة وطنية موحدة، مع الحفاظ على خصوصيات كل مكون وضمان حقوقه المشروعة.
إن إدارة هذا المشهد المركب تتطلب منهجية حكمٍ تتسم بالحنكة والحكمة، تراعي الموازين الدقيقة بين مختلف المكونات والمصالح المتشابكة، مع الحفاظ على الوحدة الوطنية والسيادة الترابية لسوريا، وتؤسس لعقد اجتماعي جديد يضمن الاستقرار والازدهار لجميع أبناء الوطن السوري.
الوقت: هل ستشهد المنظومة التركية في بلاد الشام تحولاً جذرياً في أعقاب التغيرات الاستراتيجية المرتقبة في المشهد السوري؟
السيد حسين آجرلو: تواجه تركيا منظومةً معقدةً من التحديات المتشابكة، يتصدرها هاجس الأمن القومي والمعضلة الكردية التي تحتل موقعاً محورياً في حساباتها الإقليمية، فضلاً عن البُعد الاقتصادي الذي رسمت من خلاله مصالح استراتيجية دقيقة في المنطقة.
غير أن أنقرة قد تجد نفسها من أبرز القوى الإقليمية المعرضة لخسائر استراتيجية جوهرية في المستقبل السوري، ويُعزى ذلك أولاً إلى تناقضاتها العميقة مع المكون الكردي والدولة السورية كجارين مباشرين، وثانياً لأنها، رغم دعمها المحوري لهيئة تحرير الشام، لم تقدم حتى اللحظة على دمج المجموعات المسلحة التابعة للجيش الوطني المرتبط بها في الشمال السوري مع هذه الهيئة، محتفظةً بهيكليتها كقوة عسكرية تابعة لها.
في قراءة معمقة للمشهد، تُظهر تركيا رسمياً عدم ثقتها بالمنظومة الحاكمة الجديدة في دمشق، مع احتفاظها بقوات الجيش الوطني كورقة استراتيجية، وهذه المؤشرات تكشف، خلافاً للتحليلات السائدة، أن أنقرة تدرك في حساباتها الإقليمية أن مستقبلها ومستقبل سوريا مقبل على تحولات جوهرية، بما في ذلك تصاعد محتمل للاضطرابات الداخلية.
إن التحديات الأمنية الخطيرة المتنامية في الجنوب التركي، تشكّل بحد ذاتها أرضيةً خصبةً للتحولات الاستراتيجية في سوريا، ويبدو جلياً أن التفاؤل التركي الراهن تجاه الوضع في الساحة السورية، قد لا يصمد حتى في المدى المتوسط.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المعادلة المعقدة، تستدعي مقاربةً شاملةً تراعي المصالح المتشابكة لجميع الأطراف المعنية، مع الحفاظ على الاستقرار الإقليمي والأمن القومي لكافة دول المنطقة، في ظل تحولات جيوسياسية متسارعة تشهدها المنطقة برمتها.
الوقت: في ضوء الإجماع بين كل القوى الفاعلة في المشهد السوري على هشاشة المجموعات المسلحة وعدم استقرارها، برز مؤخراً الموقف الرسمي لوزير خارجية الكيان الصهيوني الذي وصف النظام الجديد في سوريا بالإرهاب وانعدام الاستقرار، فهل سيتحول هذا الموقف إلى ذريعة لإدامة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية؟
السيد حسين آجرلو: إن أي منظومة حكم تتولى مقاليد السلطة في سوريا تحتاج، لتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة، إلى ركائز أساسية تتصدرها إرساء سيادة وطنية موحدة، يليها تحرير الأراضي المحتلة مع تأمين الموارد الضرورية لبناء مؤسسات الدولة، غير أن المشهد الراهن يكشف أن القوة المهيمنة حالياً على المشهد السوري، بدلاً من السعي لتحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية، تتجه نحو استجداء الدعم من دول كتركيا وقطر، التي يواجه كلاً منها تحدياتها الداخلية الخاصة.
وفي قراءة موضوعية للمشهد، لا يمكن لهذه الدول أن تكون صانعة قرار مثالية لمستقبل سوريا، والأهم من ذلك، أن سوريا تمرّ بمرحلة ما بعد الحرب وتحتاج إلى إعادة إعمار شامل، وعلى أي حكومة قادمة أن ترسم آفاق التنمية لشعبها في ظل هذه الظروف الاستثنائية، حيث إن غياب هذا البعد التنموي في عهد نظام بشار الأسد عقب الحرب، كان من العوامل المحورية في سقوطه.
كما أن القوى الفاعلة في الساحة السورية، تفتقر إلى القدرات اللازمة لإعادة الإعمار والتنمية في ظل حجم الدمار الهائل، وبالتوازي، فإن الحكومة السورية الجديدة، في ظل التحديات المتراكمة والظروف الراهنة، ستواجه تحديات جوهرية في المدى المنظور.
يتعين تحديد مواقف استراتيجية واضحة من العداء الصهيوني للقوى المسيطرة حالياً على سوريا، رغم أن هذه القوى حددت حتى اللحظة تعارضها مع الجمهورية الإسلامية، وتجدر الإشارة إلى الإرث التاريخي للجمهورية الإسلامية في دعم المقاومة الفلسطينية، ما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل التصورات الحالية للمجموعات المسلحة السورية في المرحلة المقبلة، وتغيير موقفها تجاه طهران.
وعليه، يمكن للكيان الصهيوني أن يلعب دوراً مزدوجاً كخصم لهيئة تحرير الشام من جهة، وكعامل محفز للحفاظ على الهوية النضالية السورية من جهة أخرى، ما قد يحوّل هذه العناصر إلى قوى مقاومة ضده، فرغم احتلالهم للأراضي السورية، يساور الصهاينة قلق عميق من إمكانية تحول القدرات والإمكانات الكامنة لدى هذه المجموعات المسلحة وشبه العسكرية، إلى قوة مقاومة فاعلة ضد الکيان الإسرائيلي.
الوقت: ما المسار المستقبلي للعلاقات الإيرانية-السورية في ضوء التحولات المرتقبة؟ وهل ستشهد المرحلة القادمة عودة التعاملات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية في خضم هذه التغيرات الاستراتيجية؟
السيد حسين آجرلو: يشهد المشهد الجيوسياسي والجغرافيا السياسية في سوريا تحولاً جوهرياً يدفع نحو ضرورة نسج علاقات استراتيجية مع قوى إقليمية خارج محيطها المباشر، ولا سيما الدول الخليجية، للحصول على الدعم اللازم، فالجوار السوري يشكّل تهديدات كامنة؛ فتركيا تحمل في طياتها نزعات استعمارية وأطماعاً عثمانية، فضلاً عن كونها قوةً محتلةً، في حين تفتقر دول كلبنان والأردن إلى المقومات الاستراتيجية للتأثير الجوهري.
وكما اتخذ حافظ الأسد قراراً استراتيجياً بالاعتماد على قوة الجمهورية الإسلامية الإيرانية إبان الحرب المفروضة، يبدو أن المسار السوري سيتجه مجدداً نحو قوى إقليمية خارج محيطها المباشر، وفي حين تسعى الدول العربية لفرض هيمنتها على سوريا - وهو نموذج اختبرته دمشق سابقاً - تتطلع إيران إلى بناء شراكة متكافئة، ما قد يشكّل خياراً مثالياً لسوريا في المستقبل المنظور.
وفي ظل التحالف الاستراتيجي التركي-الأمريكي، والظروف الاستثنائية التي يمر بها الكيان الصهيوني، قد تمتد آفاق هذه الشراكة لتشمل روسيا أيضاً، موجهةً البوصلة السورية نحو تحالفات مع قوى لا تسعى للهيمنة عليها.
وعليه، يبدو أن عودة إيران إلى المشهد السوري عبر شراكة شاملة، ليست مستبعدةً، أما مسألة الحضور العسكري المباشر كما في السابق فتخضع لمعطيات المرحلة المقبلة، وإذا تبلورت الشراكة المنشودة، فقد نشهد منظومة من الاتفاقيات الشاملة تتجاوز البعد الاقتصادي.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الحضور الإيراني-الروسي لم يكن مجرد خيار تكتيكي لسوريا بل ضرورة استراتيجية، تبناها نظاما حافظ وبشار الأسد، ومن المرجّح أن تتجه القيادة السورية المستقبلية، أياً كانت هويتها، نحو تبني خيارات مماثلة.