الوقت- جاءت اعترافات جنود الاحتلال الصهيوني باستهداف مدنيي غزة وتصنيفهم على أنهم إرهابيون خير دليل على الإجرام والنازية الصهيوني وسجلت هذه الاعترافات المباشرة صحيفة "هآرتس" العبرية على لسان جنود وضباط جيش الاحتلال الإسرائيلي فاضحة الممارسات العسكرية المنهجية في استهداف المدنيين الفلسطينيين وتصنيفهم كإرهابيين بعد قتلهم، ما يُسلط الضوء على آلية عمل عسكرية تتجاوز كل الخطوط الحمراء في القانون الدولي الإنساني، وتضع علامات استفهام كبيرة حول مصداقية الرواية الإسرائيلية الرسمية بشأن طبيعة العمليات العسكرية في غزة.
من الجدير بالذكر أن هذه الاعترافات الخطيرة التي نشرتها "هآرتس" تأتي في وقت تواصل فيه قوات الاحتلال الإسرائيلي عملياتها العسكرية في غزة، متجاهلة مذكرتي اعتقال أصدرتهما المحكمة الجنائية الدولية في الـ 21 من نوفمبر 2023، بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت، لارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين في غزة.
تصفية ومن ثم تصنيف حسب المزاج!
في ظل التحقيق الاستقصائي الذي قامت به "هآرتس"، كشفت الصحيفة عن نظام عمل مثير للقلق في جيش الاحتلال الإسرائيلي، إذ إن المباني المستهدفة يتم إبقاؤها على قائمة الأهداف العسكرية حتى بعد قصفها وتدميرها.
ونقلت الصحيفة عن ضابط في قسم الاستهداف بأحد ألوية جيش الاحتلال، تفاصيل صادمة حول هذه الممارسة، موضحة أن المبادئ التوجيهية تعتبر "المبنى النشط" هدفًا دائمًا، حتى لو تم استهدافه قبل أشهر.
وجاء تبرير ضابط كبير آخر لهذه التصريحات للصحيفة، بادعاء عودة المسلحين إلى مواقعهم السابقة؛ ما يجعل أي شخص يدخل هذه المباني، حتى لو كان مدنيًا يبحث عن مأوى، هدفًا مشروعًا لصواريخ وقذائف الاحتلال الغاشم.
وفي تفاصيل مثيرة للروعة، أوضح التحقيق أن التعليمات العسكرية في منطقة ممر نتساريم وسط قطاع غزة تقضي باستهداف أي شخص يدخل المباني بغض النظر عن هويته، حتى لو كان يبحث فقط عن ملجأ من القصف، ما يتناقض بشكل صارخ مع مبادئ القانون الدولي الإنساني التي تلزم القوات المتحاربة بالتمييز بين المدنيين والمقاتلين.
منافسة على الإجرام
في قسم آخر من تحقيق هآرتس، تم الكشف عن معلومات صادمة حول تحول عملية قتل المدنيين إلى ما يشبه المسابقة والمنافسة بين الوحدات العسكرية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، إذ نقلت "هآرتس" عن ضابط تم تسريحه مؤخرًا من الفرقة 252 قوله إن تصريحات المتحدث العسكري الإسرائيلي حول أعداد الشهداء أشعلت سباقًا داخليًا بين الوحدات العسكرية المختلفة.
وأضاف الضابط موضحًا: إن الوحدات تتنافس على رفع أعداد الشهداء، فإذا أعلنت إحدى الفرق عن قتل 150 فلسطينياً، تسعى الوحدة التالية لتجاوز هذا الرقم واستهداف 200 شخص.
وكشف الضابط في شهادته أن "منطقة القتل" بالنسبة للفرقة تمتد إلى مدى ما يمكن أن يراه القناص، مؤكدًا أن جيش الاحتلال يقوم بقتل المدنيين هناك ويتم تصنيفهم لاحقًا كإرهابيين.
إحصاءات مروعة
وفقًا للأرقام الواردة من قطاع غزة، فإن العدوان العسكري الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر 2023 خلف أكثر من 152 ألف شهيد وجريح فلسطيني، غالبيتهم العظمى من المدنيين النساء والأطفال، في حين تجاوز عدد الشهداء المؤكدين 45 ألف شخص، مع تقديرات بوجود أكثر من 10 آلاف شخص ما زالوا مدفونين تحت الأنقاض.
وعلى الرغم من تأكيد المنظمات الدولية والحكومات على مصداقية الأرقام التي تنشرها وزارة الصحة في غزة، تواصل حكومة الاحتلال الصهيوني المراوغة ومحاولة التشكيك فيها، مع امتناعها عن نشر إحصائياتها الخاصة حول الضحايا المدنيين، على عكس ما كانت تفعله في النزاعات السابقة.
وتشير تقديرات جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى أنه "يعتقد بدرجة عالية من اليقين" أن 14 ألفًا من الذين لقوا مصرعهم هم من المسلحين.
التركيز على استهداف النازحين في المناطق الآمنة
وما يعمق المأساة الإنسانية الواقعة في غزة ما كشفته الصحيفة العبرية عن تكثيف القصف الإسرائيلي على منطقة المواصي، التي سبق أن صنفها جيش الاحتلال نفسه كمنطقة إنسانية آمنة، إذ تحولت المنطقة إلى مدينة خيام ضخمة تؤوي مئات آلاف النازحين الفارين من مناطق القتال، لكن ذلك لم يمنع استهدافها بشكل متزايد، ما أسفر عن سقوط عشرات القتلى من المدنيين الذين لجؤوا إليها طلبًا للأمان.
وفي الأسابيع الأخيرة، شهدت المنطقة تصعيدًا خطيرًا في الهجمات الجوية الإسرائيلية، إذ تم استهداف خيام النازحين وتجمعات المدنيين بشكل مباشر، ما يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني الذي يحظر استهداف المدنيين والمناطق المخصصة لإيوائهم.
تعميق فكرة التهجير
وهذه فكرة متصلة بتاريخ حركات وعصابات الاستيطان، التي كانت تُمعن في القتل والتشريد بغية تعميق خوف الفلسطينيين على حياتهم، ليهربوا، فيحل مكانهم يهود من مختلف بلدان العالم، وبعبارة أخرى؛ إن فكرة التخويف وعدم الأمان- وإن كانت ظاهرة للعيان في حرب غزة- متجذرة في الفكر الصهيوني، وقد حدثت بالفعل في تهجير الكثيرين من أرض فلسطين بعد قرار التّقسيم رقْم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم عام1947، ثم عقب نكبة 1948، وهي منذ العام 1967 سياسة متّبعة بغية تهجير سكّان الضفة الغربية إلى الأردن.
غرس كراهية المقاومة في نفوس مواطني غزة
يقوم استهداف المدنيين وتصنيفهم على أنهم إرهابيون بهدف بث فتنة في نفوس الفلسطينيين أنّ حركات المقاومة الاسلامية هي من تتسبب لهم في النكبات، فيقود ذلك إلى الفتنة والاقتتال الداخلي، فلا يصبح القطاع بيئة آمنة للمقاومة، وينزع سكانه فكرة المقاومة من قاموسه السياسي، ويقبلون بالأمر الواقع، وهو عيشة الخنوع، في مقابل الأمن الشخصي، وتطليق فكرة العيش بكرامة، ولو كان الثمن هو الحياة، لكن المؤشرات على الأرض تشير إلى فشل هذا الهدف حيث أظهر تحقيق إسرائيلي ارتفاعاً ملحوظاً في عدد الشبان الذين انضموا لصفوف المقاومة منذ بدء العدوان الصهيوني على غزة.
التغطية على الفشل
فجيش الاحتلال الإسرائيلي الذي تحول خلال العقود الماضية إلى جيش نظامي يجيد فنون الحرب في الساحات المحدودة وأمام الجيوش النظامية، فقدَ لياقته في حروب العصابات، التي كانت تجيدها عصاباته الصهيونية في البداية، وهو بهذه الصورة أقل قدرة على مواجهة رجال المقاومة الفلسطينية الذين يجيدون حرب الشوارع، ويستخدمون أسلحة بدائية غير معروفة تربك العدو، لذلك لم يكن غريبًا أن حكومة الاحتلال وأذرعه أدركت منذ عدة سنوات أهمية العودة لحرب العصابات، عبر دسّ ما يسمى باليهود المستعربين وسط سكان الأرض الأصليين، وتسليح المستوطنين.
ختام القول
حتى قبل التقرير الذي نشرته هآرتس فإن المجتمع الدولي بأكمله يعي أن الغالبية العظمى من ضحايا القصف العدواني الصهيوني على غزة هم مدنيون، لا يربطهم رابط سياسي – وبالأحرى عسكري – بحركة حماس، وأن غالبيتهم أطفال ونساء وبعضهم من موظفي الأمم المتحدة، كما تدرك أن غالبية المباني التي سوّتها بالأرض هي مساكن يقطنها مدنيون لا ناقة لهم ولا جملَ في القتال الدائر، وأن بعضها مستشفيات ومساجد وكنائس أو منشآت للأمم المتحدة، وأن بعض السيارات المستهدفة كانت سيارات إسعاف، وذلك كله ينصب في هدف واحد هو السعي إلى تعميق فكرة التّرانسفير أو التهجير إلى مصر.