الوقت - في خِضَمّ تصاعُد وتيرة الهجمات الإرهابية الجديدة التي تستهدف حلب والمناطق السورية الأخرى في الآونة الأخيرة، تجتمع الدول الضامنة لمسار أستانا مُجدداً، في مسعىً حثيث لإيجاد مخرجٍ للأزمة المستفحلة.
ومن المقرر أن يلتقي وزراء خارجية الدول الثلاث - السيد عباس عراقجي وهاكان فيدان وسيرغي لافروف - يوم السبت على هامش "منتدى الدوحة العالمي" في إطار صيغة أستانا، للتداول في المستجدات السياسية والأمنية على الساحة السورية، وذلك عقب سلسلة من المشاورات الهاتفية والمباشرة التي أجروها خلال الأسبوع المنصرم، حول التطورات الأمنية في سوريا.
مع انعقاد هذه الجولة من المشاورات الثلاثيّة، تصل محادثات أستانا إلى محطّتها الثالثة والعشرين؛ غير أنّها تنعقد في موضعٍ مُغاير وفي مناخٍ يفتقر إلى روح التَّعاون التي طَبَعَت العلاقات بين الدول الضامنة للهدنة في السَّنوات المنصرمة.
وفي هذا المنحى، أدلى لافروف يوم الخميس الماضي بتصريحٍ حول حَيثيّات هذا اللقاء قائلاً: "نحن في خضم مشاوراتٍ مع شركائنا الأتراك والإيرانيين لعقد اجتماعٍ وزاريّ ضِمن مسار أستانا في الأيام المقبلة، وسيتمُّ التَّطرُق إلى ضرورة العودة إلى التَّنفيذ الدَّقيق للاتِّفاقيّات السّابقة، حيث تحوَّلت منطقة خفض التَّصعيد في إدلب إلى مُنطلقٍ يتَّخذه الإرهابيّون مَعبَراً للسَّيطرة على حلب".
وأكَّد لافروف: "أنَّ الاتفاقيّات المُبرَمة في عامي 2019 و2020، تُتيح لأصدقائنا الأتراك بَسط نفوذهم على مجريات الأمور في منطقة خَفض التَّصعيد بإدلب، وفَصل هيئة تحرير الشّام عن المعارضين غير المُدرَجين على قوائم الإرهاب، بيد أنَّ هذا لم يتحقَّق حتّى الآن".
ووصف لافروف المشهد السوري الرّاهن بأنَّه لعبةٌ شديدة التَّعقيد، مستطرداً: "تشير المعطيات المُتداولة في الفضاء العام، ولا سيّما ما يتعلَّق بالأمريكيين والبريطانيين وغيرهم، إلى أنَّ لإسرائيل مصالح في تشكيل هذا الوضع لصرف الأنظار عن حرب غزّة، إنَّها لعبةٌ بالغة التَّعقيد تتضمَّن العديد من اللاعبين، وأتطلَّع إلى أن تُسهِم الاجتماعات المُزمَع عقدها هذا الأسبوع، في تثبيت دعائم الاستقرار".
يأتي انعقاد هذا المؤتمر في خضمِّ تطورات ميدانية بالغة الدقة، حيث تشهد الساحة السورية تمدداً متسارعاً للتنظيمات المتطرفة تحت لواء "هيئة تحرير الشام" في النطاق الشمالي من البلاد، ولا سيما في محافظات إدلب وحلب وحماة، في ظل احتدام المواجهات العسكرية مع القوات النظامية السورية على امتداد جبهات القتال.
وتعود جذور مسار أستانة إلى المؤتمرين التأسيسيين للمعارضة السورية اللذين احتضنتهما العاصمة الكازاخستانية خلال شهري مايو/أيار وأكتوبر/تشرين الأول 2015، ليتبلور بعدها كمنصة دبلوماسية جامعة تستقطب كل الأطراف العسكرية الفاعلة على الساحة السورية.
وعقب عامين من المباحثات العقيمة بين المعارضة والحكومة السورية، شهد المسار انحساراً في زخمه الدولي، لتنحصر دفة المفاوضات في إدارة الأزمة بين ثلاثي القوى الإقليمية: تركيا وروسيا وإيران، بمشاركة الحكومة السورية، وقد أثمر هذا المسار عن انعقاد اثنتين وعشرين جولة تفاوضية بين ممثلي الدول الثلاث منذ يناير/كانون الثاني 2017.
وتضطلع كل من تركيا وإيران وروسيا بدور الدول الضامنة لمسيرة السلام في سوريا ضمن إطار محادثات أستانة، وتتمحور البيانات الختامية لهذه الاجتماعات حول التأكيد على صون السيادة السورية واستقلالها ووحدة أراضيها، وتثبيت دعائم وقف إطلاق النار، والمضي قدماً في صياغة دستور عصري للبلاد، مع تهيئة الظروف الملائمة لعودة النازحين، ومن المرتقب أن تستأنف مناقشة هذه المحاور الحيوية خلال جلسات يوم السبت.
الرسالة التحذيرية الروسية-الإيرانية الأخيرة لأنقرة
في حين تمحورت الركائز الأساسية لمباحثات أستانة، منذ انطلاقتها الأولى، حول تثبيت دعائم وقف إطلاق النار وتخفيف وطأة التوترات على الساحة السورية، إلا أن المشهد الراهن يتخطى نطاق التطورات الميدانية وتمدد التنظيمات الإرهابية، ليستهدف أبعاداً استراتيجيةً أكثر عمقاً.
تستشعر القيادتان في موسكو وطهران خطورة المخطط الأمريكي-الصهيوني المحاك للمنطقة، ما يدفعهما إلى توجيه رسالة تحذيرية صارمة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، محذرتين إياه من الانزلاق مجدداً في مستنقع الرهانات الغربية الواهية، فتقويض الأمن السوري، في ظل الاضطرابات الإقليمية المتصاعدة، من شأنه أن يُفضي إلى تداعيات كارثية تتجاوز التصورات الراهنة.
وفي هذا المضمار، أدلى الخبير في شؤون غرب آسيا، السيد حسن هاني، بتصريحات حصرية لموقع "الوقت"، جاء فيها: "بحكم انضواء تركيا تحت مظلة حلف الناتو، المتورط بشكل محوري في زعزعة الاستقرار السوري، تجد أنقرة نفسها في موقع الوكيل الإقليمي للمنظومة الغربية في مواجهة دمشق، ويتحتم على تركيا، في هذا المنعطف الدقيق، الالتزام الصارم بمقتضيات اتفاقية أستانة، والمساهمة في تهيئة المناخ الملائم للتوصل إلى صيغة توافقية مشتركة بين الأطراف الضامنة، بغية إيقاف دوامة العنف في سوريا، فاستشراء حالة اللااستقرار سيُلقي بتداعياته الوخيمة على المنطقة برمتها، وهو سيناريو لا يخدم مصالح أي من الأطراف المعنية".
على الرغم من انخراط أنقرة في منظومة التفاهمات الثلاثية مع موسكو وطهران خلال الحقبة المنصرمة، وتبنيها مظهراً خارجياً يوحي بالتناغم مع توجهاتهما الاستراتيجية، إلا أن سياستها الفعلية ظلت محكومةً بازدواجية تكتيكية صارخة، متجليةً في إصرارها المستمر على تقديم الدعم للتنظيمات المصنفة إرهابياً، ومواصلة مساعيها الحثيثة لإقامة نطاق جيوسياسي عازل في الشمال السوري.
وفي أعقاب إخفاق مساعي أردوغان في مسار التطبيع مع دمشق، يتبنى صانع القرار التركي رؤيةً واهمةً مفادها إمكانية استثمار الاضطرابات الإقليمية الراهنة، مع توظيف الأذرع الإرهابية كأوراق ضغط على النظام السوري برئاسة بشار الأسد، في محاولة لانتزاع مكاسب استراتيجية من دمشق.
وفي هذا السياق، وانطلاقاً من الدعم الاستراتيجي الراسخ الذي تقدمه موسكو وطهران للحكومة السورية الشرعية، يُشكِّل منبر الدوحة فرصةً دبلوماسيةً سانحةً للحليفين الأساسيين لدمشق لتوجيه رسالة حازمة إلى أنقرة، جوهرها ضرورة الكفّ عن سياسات تصعيد التوتر الأمني في الساحة السورية، مع التشديد على أن المسار الدبلوماسي يبقى الخيار الأمثل والوحيد المتاح أمام تركيا لمعالجة ملفات الخلاف مع دمشق.
آفاق مؤتمر أستانة
في خضم تصاعد اللهيب السوري وسط متاهة الاضطرابات الأمنية المعقدة في الفضاء الجيوسياسي لغرب آسيا، تبقى المخرجات المرتقبة لمؤتمر أستانة محكومةً بمنظومة متشابكة من المتغيرات الاستراتيجية والمعطيات الميدانية.
وفي هذا المضمار، يُسلط السيد هاني زاده الضوء على المشهد الراهن قائلاً: "يتزامن انعقاد هذه القمة مع مساعٍ محمومة من قِبل التنظيمات التكفيرية للاستحواذ على محوري حمص وحلب الاستراتيجيين، في محاولة لتعزيز نفوذها الميداني وقطع شرايين التواصل المحورية بين الشمال والجنوب، ما سيضع المنظومة الأمنية للرئيس بشار الأسد أمام تحديات عسكرية واستراتيجية غير مسبوقة، ويتجلى المخطط المرسوم من قِبل القوى المتدخلة في الأزمة في سوريا، في تمكين العناصر الإرهابية من اختراق العاصمة دمشق، والإطاحة بمنظومة الحكم القائمة، تمهيداً لاستنساخ النموذج الطالباني الأفغاني على الأراضي السورية".
وفي تحليله للمخططات المحاكة في أروقة المحور الغربي-العبري تجاه سوريا، يكشف السيد هاني زاده: "يستهدف المشروع المطروح إقامة نطاق أمني يمتدّ من مرتفعات الجولان وصولاً إلى درعا في الجنوب السوري، بهدف تأمين العمق الاستراتيجي للكيان الصهيوني، وهو ما يدفع طهران إلى متابعة مسارات تفكيك الأزمة، ودعم دمشق بحساسية استراتيجية فائقة.
وعليه، يمكن لمنصة أستانة أن تشكّل أداةً دبلوماسيةً لإنهاء الأزمة في سوريا، شريطة تخلي أنقرة عن سياسة دعم التنظيمات التكفيرية، فهذه الجماعات، بفعل البرامج التأهيلية المتقدمة التي تلقتها من المنظومتين التركية والغربية، باتت تشكّل تهديداً وجودياً للدولة السورية المركزية يستوجب احتواءه بحزم، ما يجعل من هذا المؤتمر منعطفاً مصيرياً في مسار الأزمة".
وفي استشراف لإمكانية تحقيق اختراق دبلوماسي عبر منصة أستانة في ظل المعطيات الراهنة، يقدّم الخبير في شؤون غرب آسيا تحليله قائلاً: "تتجلى الأهمية الاستراتيجية لهذا المؤتمر، في كونه منصةً محوريةً لتأكيد ضرورة التطبيق الشامل والصارم لكل بنود الاتفاقية، مع تسليط الضوء على المحورية التركية في المشهد الراهن، وخاصةً في ظل انتهاكاتها المتكررة لمقتضيات الاتفاق.
وفي السياق ذاته، يمكن لمباحثات بغداد الإيرانية-العراقية أن تشكّل أداةً دبلوماسيةً لبلورة مقاربة استراتيجية متكاملة لتفكيك الأزمة في سوريا، وبالتوازي، تواصل القيادة السورية مساعيها الحثيثة لإحكام قبضتها على زمام الأمور، في حين يتأهب محور المقاومة لتكثيف عملياته النوعية في المرحلة المقبلة، بهدف تطهير الجغرافيا السورية من البؤر الإرهابية، واستعادة منظومة الأمن والاستقرار".
في غمرة المساعي الأمريكية-الصهيونية الرامية إلى توجيه ضربة استراتيجية للمصالح الروسية-الإيرانية عبر تصعيد الأزمة في سوريا، تبرز الجولة المرتقبة من مؤتمر أستانة كاستجابة جيوسياسية متكاملة لتحركات المحور الغربي-العبري، مع ما تحمله من إمكانات واعدة لتدشين مرحلة نوعية جديدة في منظومة العلاقات العسكرية والاستراتيجية بين موسكو وطهران في المستقبل المنظور.