الوقت - لا تقتصر التداعيات الاستراتيجية للهجوم الصاعق وغير المسبوق الذي شنته حركة حماس، والموسوم بـ"طوفان الأقصى"، على المستوطنات المحيطة بقطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، على إزهاق أرواح الصهاينة فحسب، بل إن مساعي إرساء الردع وتحقيق الأمن في الذكرى السنوية لهذه الحرب، قد أفضت إلى نتائج عكسية.
حتى لو سعى مراقب محايد لتقييم الوضع الراهن في الأراضي المحتلة بعد عام من "طوفان الأقصى"، باعتباره حافلاً بالأحداث الجسام، فلا يسعه إنكار الحقيقة التي أقرّ بها قادة الاحتلال أنفسهم: "إسرائيل" أخفقت في تحقيق أهدافها، وقد تكبدت تل أبيب خسائر استراتيجية في تعزيز قدرتها الرادعة، ناهيك عن الخسائر الاقتصادية والسياسية التي بلغت مليارات الدولارات.
بعد عام من التخبط في مستنقع غزة، يجد جيش الاحتلال نفسه الآن غارقاً في الرمال المتحركة اللبنانية، حيث تبتلع جنوده ودباباته على الجبهة الشمالية نتيجةً للخطط المحكمة التي أعدتها المقاومة لمثل هذا اليوم، وقد بلغ جنون "إسرائيل" ذروته بسبب الهزائم المتلاحقة، ما يدفعها إلى متاهة من الخيارات المتخبطة.
إن هذه الحرب التي يشنها كيان الاحتلال على عدة جبهات، هي الأطول منذ اغتصابه للأرض عام 1948، وعلى الرغم من استخدامه لشتى أنواع الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتطورة، وبدعم من الولايات المتحدة وبريطانيا، لم يفلح جيش الاحتلال في ضمان أمن المستوطنين، بل مع دخول حرب غزة عامها الثاني، اندلعت موجة عارمة من التهديدات من قبل فصائل المقاومة ضد الأراضي المحتلة، ما أوقع قادة تل أبيب في حيرة بالغة.
جولة جديدة من الهجمات من غزة في الذكرى السنوية لطوفان الأقصى
على الرغم من مزاعم المسؤولين الصهاينة بأنهم قوّضوا جميع البنى التحتية العسكرية لحماس خلال العام المنصرم، وأن الحركة لم تعد قادرةً على تشكيل تهديد جدي لأمن المستوطنين، إلا أنه خلافاً لحسابات قادة تل أبيب، استهلّ مقاتلو القسام جولةً جديدةً من الهجمات الصاروخية ضد الأراضي المحتلة في الذكرى السنوية لطوفان الأقصى.
وفي أحدث التطورات، أعلنت كتائب القسام يوم الثلاثاء الماضي، أنها فجرت ناقلة جند صهيونية بالقرب من مبنى مؤسسة "بيتنا" غرب مخيم جباليا شمال غزة، كما دمرت الكتائب دبابة "ميركافا 4" غرب جباليا.
وأعلنت كتائب القسام يوم الإثنين الماضي عن استهدافها لمدينة تل أبيب بصواريخ "M90" ذات القدرة التدميرية العالية، كما وجهت القسام ضربات موجعة للقاعدة العسكرية "صوفا"، وتجمعات قوات الاحتلال الإسرائيلي في معبر رفح، ومركز عمليات الکيان في قاعدة كرم أبو سالم العسكرية، مستخدمةً صواريخ "رجوم" قصيرة المدى عيار 114 ملم، وفي المقابل، اضطر جيش الكيان الصهيوني للإقرار بمصرع أحد جنوده، وإصابة آخر في المعارك المحتدمة مع المقاومة الفلسطينية في شمال قطاع غزة.
تأتي هذه الموجة الجديدة من الهجمات الفلسطينية المركزة في الذكرى السنوية لحرب غزة، متحديةً بذلك المزاعم المتكررة للمسؤولين الصهاينة بنجاحهم في تطهير شمال غزة من وجود قوات حماس، بيد أن تواصل إطلاق الصواريخ من هذه المنطقة، يبرهن بشكل قاطع على أن المقاومة الفلسطينية قد أعادت ترتيب صفوفها بكفاءة عالية، متأهبةً لخوض معركة طويلة الأمد.
صواريخ حزب الله تزلزل حيفا وتل أبيب
مع استمرار الجرائم الصهيونية في غزة وتصاعد وتيرتها، تشهد الجبهات المناهضة للكيان الإسرائيلي اتساعاً متزامناً مع تصاعد الاشتباكات، وعلى الرغم من أن حزب الله اللبناني قد وقف إلى جانب أهل غزة منذ اللحظات الأولى لطوفان الأقصى، مباشراً هجماته اليومية ضد شمال الأراضي المحتلة، إلا أنه في الآونة الأخيرة قام بتصعيد نوعي لنطاق عملياته، ثأراً لدماء قادته وكوادره العليا، وبالتزامن مع الذكرى السنوية لحرب غزة، وجّه ضربات صاروخية دقيقة لمواقع إسرائيلية بالغة الحساسية والأهمية الاستراتيجية.
وفي هذا السياق، أصدر حزب الله بياناً يوم الثلاثاء الماضي جاء فيه: استهدفنا بدقة متناهية قاعدة غليلوت، التابعة لوحدة الاستخبارات العسكرية 8200، في محيط تل أبيب، ويأتي هذا الهجوم في إطار سلسلة عمليات خيبر، رداً على استهداف العدو الممنهج للمدنيين وإزهاق أرواحهم، وتحت شعار "لبيك يا نصر الله".
وفي سياق متصل، كشف حزب الله في بيان آخر يوم الاثنين الماضي: "أطلقت المقاومة الإسلامية صاروخاً متطوراً من طراز فادي 1 على قاعدة الكرمل جنوب حيفا"، وفي اعتراف ضمني بدقة الإصابة، أقرت الشرطة الصهيونية بوقوع 10 إصابات جراء سقوط صواريخ حزب الله على حيفا، ونقلت وسائل الإعلام العبرية، في تطور لافت، عن المتحدث باسم جيش الاحتلال تأكيده على فشل منظومات الدفاع الجوي في اعتراض أي من الصواريخ، رغم توجيهها بدقة متناهية نحو المدينة.
وفي بيان رسمي صادر يوم الثلاثاء الماضي، أعلن حزب الله اللبناني عن استهدافه لمدينتي حيفا والكريوت بمئة صاروخ، وقد وصفت وسائل الإعلام العبرية هذا القصف الصاروخي بأنه الأعنف منذ بداية الحرب على غزة، مشيرةً إلى الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والشوارع، فضلاً عن سقوط عدد من الجرحى.
كما استهدف حزب الله منطقة الجليل الحدودية مع لبنان بوابل من الصواريخ، ما أسفر عن مقتل وإصابة عدد من الصهاينة، وفي سياق متصل، أثار الهجوم الصاروخي غير المسبوق الذي شنه حزب الله على تل أبيب مساء الاثنين الماضي، حالةً من الذعر غير المعهود في أوساط الإعلام العبري، الذي وصف الهجمات المتزامنة من غزة ولبنان واليمن بأنها غير اعتيادية، متسائلاً بدهشة عما إذا كانت هذه الهجمات تمثّل بدايةً لموجة جديدة من الاستهدافات ضد تل أبيب.
ووفقاً لمعظم التقديرات المعلنة، فإن فتح جبهة ثانية في الشمال، يمثّل سيناريو كارثياً لـ "إسرائيل"، وهذا الوضع المعقد يخلق تحدياً كبيراً فيما يتعلق بقدرة المحتلين على إدارة هذا النوع من الصراع المزدوج، وخاصةً في ظل الإنهاك العسكري والاقتصادي الناجم عن العمليات الجارية في جبهة غزة.
إن استعادة الردع في مواجهة حزب الله - الذي يعدّ أقوى وأكثر تسليحاً وخبرةً من حماس - يبدو أقرب إلى الخيال، نظراً لمجموعة واسعة من العوامل التي تؤثر على قدرتهم على تحقيق ذلك، فحزب الله يمتلك عشرات الآلاف من الصواريخ المتطورة والدقيقة وبعيدة المدى، القادرة على الوصول إلى معظم أنحاء الأراضي المحتلة.
جبهة اليمن والعراق تصبح أکثر نشاطاً
وفي سياق متصل، صعّدت جماعات المقاومة في اليمن من نطاق هجماتها على الأراضي المحتلة، وفاءً بوعودها بدعم شعبي غزة ولبنان، وقد أعلن يحيى سريع، المتحدث باسم القوات المسلحة اليمنية، مساء الإثنين الماضي عن عمليتين عسكريتين إضافيتين ضد فلسطين المحتلة، وأوضح أن العملية الأولى استهدفت تل أبيب باستخدام صاروخي "فلسطين-2" و"ذو الفقار"، بينما استُخدمت طائرات مسيرة من طراز "يافا" و"صماد-4" في العملية الثانية لتدمير عدة أهداف في إيلات.
من جانبه، حذّر محمد علي الحوثي، عضو المجلس السياسي لأنصار الله، قادة تل أبيب قائلاً: في الأيام المقبلة، ستتعرضون لاستهداف بصواريخ فرط صوتية، لتذوقوا ما ذاقه شعب فلسطين ويافا.
وقد استهدف اليمنيون في الأسابيع الأخيرة مناطق في عمق الأراضي المحتلة باستخدام صواريخ باليستية وفرط صوتية، ما أثار قلق قادة تل أبيب، والجدير بالذكر أن العديد من هذه الصواريخ تمكنت من اختراق أنظمة الدفاع الجوي وإصابة أهدافها، ما خلق حالةً من الخوف والذعر بين المستوطنين الصهاينة.
إلى جانب اليمن، أعلنت مجموعات المقاومة في العراق عن تنفيذها في عمليات منفصلة يوم الثلاثاء، استهداف خمسة أهداف صهيونية في وسط وشمال الأراضي المحتلة، كما قامت القوات العراقية، في الذكرى السنوية للحرب في غزة، باستهداف منطقة معينة في الأراضي المحتلة باستخدام طائرة مسيرة.
وتُعتبر النقطة البارزة في أحدث عمليات مجموعات المقاومة، هي الهجمات على المراكز التي تُعتبر شرايين الحياة العسكرية والاقتصادية لـ "إسرائيل"، فبعض هذه المراكز تلعب دورًا حاسمًا في مسار الصراع مع محور المقاومة، واستهدافها يسجّل ضربةً قويةً للغاية ضد الکيان الإسرائيلي.
أهمية قاعدة غليلوت
واحدة من المراكز الاستراتيجية التي تعرضت مؤخرًا للقصف الصاروخي من قبل حزب الله، هي قاعدة غليلوت. هذه القاعدة هي مقر دائرة المعلومات العسكرية في الجيش الإسرائيلي المعروفة بـ "أمان"، وموطن وحدات حيوية مثل الوحدة 8200 المسؤولة عن جمع المعلومات الاستخباراتية واختراق الشبكات السيبرانية، والوحدة 9900 المسؤولة عن الاستخبارات البصرية، تقع هذه القاعدة في منطقة "رامات شارون" قرب مدينة هرتسليا، شمال شرق غليلوت، على بعد 1.5 كيلومتر من تل أبيب وحوالي 110 كيلومترات من حدود فلسطين ولبنان.
توجد أيضًا المقرات المركزية لجهاز "الموساد" وكُلية القوات المسلحة في مقر دافيد، بالإضافة إلى مركز ذاكرة المعلومات والموقع التذكاري لضحايا وحدات استخبارات الجيش الإسرائيلي بالقرب من هذه القاعدة، وتعدّ قاعدة غليلوت مركزًا متقدمًا لجمع وتحليل البيانات، وتحتوي على مركز كبير للعمليات السيبرانية.
تتحمل الوحدة 8200 أيضًا مسؤولية قيادة الحرب الإلكترونية داخل الجيش الصهيوني، وقد كان لها دور بارز في الحرب الإلكترونية ضد البرنامج النووي الإيراني، وتشير تقارير عبرية إلى أن هذه الوحدة لعبت دورًا مهمًا في استهداف قادة وأعضاء حزب الله من خلال زرع مواد متفجرة في أجهزتهم الاتصالية، كما يُعتقد أن لها دورًا حيويًا في تحديد مواقع قادة حزب الله، حيث تتجسس على الهواتف والأجهزة المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعي.
لذا، فإن استهداف هذه القاعدة من قبل حزب الله، يمثّل ضربةً قاسيةً ومؤثرةً للجيش الإسرائيلي، ما يعكس قوة وكفاءة المقاومة في ساحة المعركة.
حيفا شريان الاقتصاد في تل أبيب
تحتل حيفا مكانةً بارزةً كقطب تجاري وصناعي في كيان الاحتلال الصهيوني، إذ أصبحت في مرمى صواريخ حزب الله، تعكس الأهمية الاستراتيجية لهذه المدينة تركز مصانع المواد الكيميائية، المحلية والدولية، بما في ذلك مصنع "بيزان"، والذي يُعتبر أحد أكبر المنشآت في مجال تكرير النفط.
فضلاً عن ذلك، تُعتبر حيفا أحد المراكز الرئيسية للتكنولوجيا المتطورة في هذا الكيان، حيث تضم شركات كبرى وناشئة تركز جهودها على تطوير تقنيات مبتكرة.
يُعدّ ميناء حيفا مركزًا حيويًا للتجارة البحرية، إذ يمثّل نقطة دخول وخروج رئيسية للعديد من السلع، بالإضافة إلى ذلك، يخدم هذا الميناء كقاعدة للصناعات البحرية، وتمتاز حيفا بوجود عدة شركات كبيرة تعمل في إنتاج المعادن والمنتجات المعدنية، حيث تُسهم بشكل كبير في تزويد الصناعات المختلفة بقطع الغيار اللازمة.
وتحتضن المدينة أيضًا مؤسسات أكاديمية بارزة، من بينها جامعة التخنيون، التي تعتبر مركزًا للبحث والتطوير في العديد من المجالات، ما يسهم في تعزيز الصناعات المحلية وتشجيع الإبداع، كذلك، تحتوي حيفا على عدد من مصانع الأغذية والمشروبات التي تخدم السوق المحلي، وتصدر منتجاتها إلى الأسواق الخارجية.
لذا، إذا قررت غرفة العمليات المشتركة للمقاومة توسيع نطاق عملياتها الصاروخية لتشمل حيفا، فمن المحتمل أن يُصاب الاقتصاد الإسرائيلي بالشلل، ما سيؤدي إلى تكبيد الكيان خسائر فادحة، وهذه القضية قد تضع قادة تل أبيب في موقف صعب في ظل الوضع الحالي، وخاصةً بعد أن أوقفت جماعة أنصار الله حركة السفن الصهيونية في البحر الأحمر، ما أدى إلى إغلاق ميناء إيلات.
الجليل مركز النشاطات العسكرية
على الرغم من جهود الكيان الصهيوني لحفظ بنيته التحتية العسكرية ونشاطاته الاقتصادية بعيدًا عن متناول فصائل المقاومة، إلا أن هناك بعض المواقع الحساسة لهذا الكيان تقع بالقرب من الحدود اللبنانية والسورية، ما يجعلها عرضةً للخطر في الأوقات الحرجة، واحدة من هذه المناطق هي الجليل، التي تحتوي على بنى تحتية حيوية بالنسبة للكيان.
تستقر في الجليل صناعات بناء السفن، بما في ذلك السفن العسكرية والطرادات "ساغر 4" و"5"، وسفن الدوريات " Schildag"، بالإضافة إلى السفن الصغيرة من طراز 72، كما توجد فيها شركات كبرى متخصصة في إنتاج هياكل الطائرات العسكرية، والتي تشمل المصنع الوحيد لإنتاج أجهزة الاستشعار الكهروضوئية (في الصناعة العسكرية)، وتطوير وإنتاج أنظمة "القبة الحديدية"، وكذلك العمليات السيبرانية، والذكاء الاصطناعي، وبيانات ضخمة.
كما تُعتبر الجليل موطنًا لشركات تعمل في مجالات أنظمة الاتصالات، والأنظمة العسكرية، والمعالجة المعدنية لآلات النقل العسكرية، بالإضافة إلى إنشاء أنظمة المدفعية والذخائر، وإنتاج وحدات التزود بالوقود للطائرات والمركبات المدرعة، وتتمركز القواعد العسكرية الإسرائيلية في جبل ميرون، الذي يُعتبر بمثابة عيون تجسس لهذا الكيان في المنطقة.
لذا، إذا كان لحزب الله أن يفي بوعوده الصادقة ويدخل الجليل، فإن العديد من الشركات الإسرائيلية البارزة ستُعاني من خسائر كبيرة، ومن المؤكد أن عملية إنتاج الأسلحة والصناعات الدفاعية ستواجه تحديات جسيمة.
وفي الختام، يمكن القول إن الجيش الإسرائيلي، بعد احتدام معركة "طوفان الأقصى"، قد واجه هزائم كبرى وغير مسبوقة، وخاصةً بعد اتساع نطاق هذه المعركة جغرافيًا لتشمل مجالات جديدة في المنطقة، بما في ذلك لبنان وإيران واليمن والعراق، ما زاد عدد التداعيات.
وعلى الصعيد العسكري، أدت الخلافات الداخلية بين القيادات العسكرية بسبب عجزها عن تحقيق الأهداف المعلنة في غزة، وما نتج عنها من تكبد خسائر إضافية في الميدان، إلى توتر متزايد بين المسؤولين السياسيين والعسكريين في تل أبيب.
لذلك، أظهرت "طوفان الأقصى" وقوة المقاومة في المنطقة، وخاصةً في لبنان، بوضوح نقاط الضعف لدى المحتل، ما جعل العبارة التاريخية لسماحة السيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، حقيقةً ملموسةً، وهي أن "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت".