الوقت – لقد أضحت موجة الحرارة القائظة والمرهقة في فصل الصيف، معضلةً كبرى للدول التي تعاني من شح في موارد الطاقة، ويُعدّ لبنان من بين هذه الدول التي تواجه تحديات جمة في تأمين احتياجاتها من الكهرباء، نظراً لافتقارها للثروات النفطية والغازية.
منذ يوم السبت الماضي، غرق لبنان مجدداً في ظلام دامس جراء نقص الوقود اللازم لتشغيل محطات توليد الطاقة، وقد أصدرت مؤسسة كهرباء لبنان بياناً رسمياً، أفادت فيه بانقطاع التيار الكهربائي في كل أرجاء البلاد، بما في ذلك المرافق الحيوية والمنشآت الاستراتيجية كالمطارات والموانئ والسجون، وذلك نتيجة استنفاد مخزون الوقود في محطات التوليد.
وأكدت المؤسسة أن انقطاع التيار الكهربائي، نجم عن توقف آخر وحدة تشغيلية في محطة الزهراني الحرارية، وطمأنت المؤسسة المشتركين بأنها قد اتخذت كل التدابير الاحترازية الممكنة، لإطالة فترة إنتاج الطاقة الكهربائية في ظل الظروف الاستثنائية الراهنة، مؤكدةً أنها ستباشر بإعادة تشغيل المحطات التي اضطرت لإيقافها حال توافر مادة الديزل، وذلك بهدف تعزيز المخزون الاستراتيجي.
إن انقطاع الكهرباء في لبنان، فضلاً عن تداعياته الوخيمة على المشتركين في القطاع السكني، يشكل تحدياً جسيماً للقطاع الخدماتي بأكمله، ما يهدد بتفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالبلاد.
وفي هذا السياق، صرّح "فادي الحسن"، المدير العام للطيران المدني في مطار بيروت الدولي، في أول تعليق له على هذه الأزمة المستجدة، أن المطار يعتمد حالياً على المولدات الاحتياطية لتأمين الإمداد الكهربائي، معرباً عن أمله في أن تكون هذه الأزمة عابرةً وقصيرة الأمد.
وعلى الرغم من المخاوف المتزايدة بشأن انقطاع التيار الكهربائي، أبدى وزير الطاقة والمياه اللبناني، الدكتور وليد فياض، نبرةً تفاؤليةً في معرض رده على استنفاد وقود محطات توليد الكهرباء، وانقطاع التيار في عموم البلاد، حيث أعرب عن أمله في وصول شحنات جديدة من الغاز المصري إلى لبنان، في موعد أقصاه 23 أغسطس الجاري.
وأضاف الوزير: ستتولى المولدات الكهربائية مهمة تزويد مطار بيروت الدولي بالطاقة اللازمة بصورة مؤقتة لمدة يومين، كما أكد قائلاً: اتخذت الحكومة اللبنانية سلسلةً من التدابير الاستباقية، للتعامل مع سيناريو نفاد الوقود.
يُذكر أن لبنان يعاني في السنوات الأخيرة من أزمة حادة في قطاع الكهرباء، تفاقمت بشكل ملحوظ في أعقاب الأزمة المالية التي تعصف بالبلاد منذ عام 2019، ما اضطر المنازل والمؤسسات التجارية اللبنانية للاعتماد بشكل كبير على المولدات الخاصة، التي لا توفّر سوى بضع ساعات محدودة من الإمداد الكهربائي اليومي.
قبل عامين، شهد لبنان ارتفاعاً ملحوظاً في وتيرة انقطاع التيار الكهربائي، نتيجةً للأزمة المالية الخانقة التي أعاقت قدرة الحكومة على تأمين العملات الأجنبية اللازمة لاستيراد الوقود، وعلى الرغم من أن انقطاع الكهرباء قد يكون أمراً مألوفاً في بعض البلدان خلال فصل الصيف، إلا أن تداعياته على لبنان في ظل الظروف الراهنة، قد تكون باهظة التكاليف.
تمكّن لبنان في السنوات الأخيرة من تأمين احتياجاته من الوقود، قدر المستطاع، عبر دول المنطقة، ففي سبتمبر 2021، عندما واجه لبنان نقصاً حاداً في الوقود، وكادت مخزونات البنزين أن تنفد، قامت إيران بإرسال 80 ناقلة وقود إلى هذا البلد، للمساعدة في التغلب على أزمة الطاقة.
محطات توليد الكهرباء العاملة في لبنان
يمتلك لبنان عدداً من محطات توليد الكهرباء لتلبية احتياجاته من الطاقة، والتي من شأنها أن تضمن إمداداً كافياً من الكهرباء في حال توافر الوقود اللازم لتشغيلها.
كان حجم إنتاج الطاقة في لبنان يتراوح بين 1600 و2000 ميغاواط يومياً، غير أن النقص المزمن في الوقود خلال السنوات الأخيرة، أدى إلى انخفاض تدريجي في الإنتاج إلى مستويات متدنية غير مسبوقة.
يمتلك لبنان في الوقت الراهن ثماني محطات لتوليد الطاقة الكهربائية تعمل بالوقود الحراري، وهي على النحو التالي: محطة الذوق، والزهراني، ودير عمار، وجيه، والحريشة، وتيرة، وبعلبك، وكسارة، وتعدّ محطة الذوق أكبر هذه المحطات قاطبةً، حيث تبلغ قدرتها الإنتاجية 608 ميغاواطات، والجدير بالذكر أن جميع هذه المحطات تعتمد على زيت الوقود الثقيل، لتلبية احتياجاتها من الطاقة.
وتحتل محطة الزهراني، الواقعة في جنوب لبنان، مكانةً بارزةً بين محطات توليد الكهرباء في البلاد، إذ كانت المحطة الوحيدة التي ظلت قيد التشغيل حتى يوم السبت الماضي، نظراً لدورها الحيوي في تغطية الجزء الأكبر من الطلب على الكهرباء.
ونظراً لافتقار لبنان إلى احتياطيات نفطية خاصة به، فإنه يضطر إلى الاعتماد على الاستيراد لتلبية احتياجاته، وقد اعتمد لبنان في السنوات الأخيرة على استيراد النفط من عدة دول، أبرزها: اليونان (بقيمة 1.67 مليار دولار)، وتركيا (1.2 مليار دولار)، وإيطاليا (531 مليون دولار)، وقبرص (301 مليون دولار)، وروسيا (200 مليون دولار).
وفي الفترة بين عامي 2021 و2022، شهدت واردات لبنان من المنتجات النفطية المكررة نمواً سريعاً من الأسواق التالية: تركيا (430 مليون دولار)، واليونان (420 مليون دولار)، وإيطاليا (354 مليون دولار).
وفي إطار سعيه لتنويع مصادر وارداته النفطية، أبرم لبنان اتفاقيات مع دول صديقة، ومن أبرز هذه الاتفاقيات، تلك التي وقّعها مع العراق في يوليو 2021، والتي تنص على استيراد مليون طن من الوقود، بهدف التخفيف من حدة أزمة نقص الوقود في البلاد، وقد أكد المسؤولون اللبنانيون أن هذه الكمية كافية لتغطية احتياجات لبنان من الكهرباء لمدة أربعة أشهر.
وفي خطوة استراتيجية بالغة الأهمية، أبرم لبنان في شهر تموز من العام 2022 اتفاقيةً ثلاثية الأبعاد مع مصر وسوريا، تهدف إلى استيراد الغاز الطبيعي بشروط تفضيلية استثنائية، حيث يقل السعر المتفق عليه بنسبة 30% عن نظيره في الأسواق العالمية.
تتصدر مصر حالياً الدول المصدرة للغاز إلى لبنان، مع وعود بإرسال شحنات إضافية من الطاقة في المستقبل القريب، في محاولة جادة لتخفيف وطأة أزمة الكهرباء المستعصية التي تعصف بالبلاد.
وفي إطار رؤيتها الاستراتيجية لتنويع مصادر الطاقة، شرعت الحكومة اللبنانية في تنفيذ خطة طموحة للاستفادة من الطاقات المتجددة، ورغم أن هذا القطاع الواعد لا يزال في طور النمو، إلا أنه يحمل في طياته إمكانات هائلة لتحويل المشهد الطاقوي في لبنان.
يمتلك لبنان اليوم 11 محطة متطورة لتوليد الطاقة الكهرومائية والرياحية، ورغم أن إنتاج هذه المحطات لا يتجاوز حالياً 5% من إجمالي احتياجات الطاقة، وأقل من 10% من إجمالي إنتاج الكهرباء، إلا أنها تمثل نواةً صلبةً لثورة الطاقة النظيفة في البلاد، وتعدّ الطاقة المائية حالياً المصدر الرئيسي للطاقة المتجددة في لبنان، مع وجود إمكانات هائلة غير مستغلة في مجالي الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
وفي سياق متصل، يبرز حقل "كاريش" الغازي المشترك بين لبنان والكيان الصهيوني في مياه البحر الأبيض المتوسط، كمحور جيوسياسي بالغ الأهمية، ويحمل هذا الحقل في طياته إمكانات هائلة لحل معضلة الطاقة اللبنانية، شريطة التوصل إلى اتفاق عادل وشامل، بيد أن محاولات تل أبيب للاستحواذ على كامل موارد هذا الحقل الاستراتيجي، قد قوبلت برفض قاطع من قبل المقاومة اللبنانية، ونظراً لفشل المفاوضات الخاصة بترسيم الحدود البحرية، فإن كلاً من لبنان والكيان الصهيوني، لا يستطيعان في الوقت الراهن استغلال حقل كاريش.
استغلال واشنطن لأزمة الكهرباء: مناورة جيوسياسية في قلب الأزمة اللبنانية
في خضم أزمة الطاقة المستعصية التي تعصف بلبنان، والتي تتضافر مع تداعيات الانهيار الاقتصادي المتسارع، تلوح في الأفق نذر مخطط خارجي يستهدف النسيج الاجتماعي والسياسي للدولة اللبنانية.
حيث شهدت الساحة اللبنانية في الآونة الأخيرة موجات متلاحقة من الاحتجاجات الشعبية، مدفوعةً بوطأة الأزمات الاقتصادية المتعاقبة، وشبح انقطاع التيار الكهربائي المتكرر، وقد سارعت الولايات المتحدة الأمريكية، بالتنسيق مع حلفائها الإقليميين إلى توظيف هذه الاضطرابات كمنصة لفرض أجندتها السياسية، وإذكاء نار عدم الاستقرار بهدف تقويض أركان الحكومات المتحالفة مع محور المقاومة.
إن الإدارة الأمريكية، مدعومةً ببعض الأنظمة الخليجية، تسعى جاهدةً لتحجيم النفوذ السياسي لحزب الله في المشهد اللبناني، وقد تجلى هذا المسعى في فرض حزمة من العقوبات المالية الصارمة على القطاع المصرفي اللبناني في السنوات الأخيرة، وتترقب هذه القوى الفرص السانحة لتصعيد الضغوط على حزب الله، وتأليب الرأي العام ضده.
وفي ظل التصعيد الراهن على جبهة المواجهة بين حزب الله والكيان الصهيوني، مع ما يحمله من احتمالات اندلاع مواجهة شاملة، قد تشكّل أزمة انقطاع التيار الكهربائي فرصةً ذهبيةً لواشنطن لاستغلال هذا الظرف، في شن حملة ضغط متعددة الأبعاد على حزب الله.
وتتجلى المساعي الأمريكية الحثيثة في الآونة الأخيرة، كمحاولة استراتيجية لإرغام حزب الله على وقف عملياته الصاروخية ضد الكيان الصهيوني، غير أن هذه المحاولات قد باءت بالفشل الذريع، ما دفع واشنطن إلى البحث عن مسارات بديلة لتحقيق مآربها.
وفي هذا السياق، تبرز أزمة الكهرباء المستعصية في لبنان، كفرصة ذهبية قد تستغلها الإدارة الأمريكية لتحقيق أهدافها الجيوسياسية، فإذا ما استمر انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة، فإن ذلك سيؤدي حتماً إلى تأجيج نار السخط الشعبي، ما قد يفضي إلى اندلاع موجة عارمة من الاحتجاجات تجتاح الشوارع اللبنانية.
إن هذا السيناريو المحتمل هو بالضبط ما تترقبه واشنطن بفارغ الصبر، إذ يمكنها استغلال هذه الاضطرابات لتوجيه دفة الرأي العام، وتصوير حزب الله كمسؤول رئيسي عن الأزمات المتلاحقة التي تعصف بالبلاد.
ويأتي هذا التطور في لحظة بالغة الحساسية، حيث بلغ التوتر بين المقاومة والكيان الصهيوني ذروته غير المسبوقة، وفي ظل هذه الظروف الاستثنائية، يجد لبنان نفسه في موقف لا يحسد عليه، إذ لا يملك ترف التعامل مع احتجاجات شعبية واسعة النطاق.
وهنا يكمن جوهر المخطط الأمريكي، إذ قد تسعى واشنطن لاستغلال حالة الاستياء الشعبي، كورقة ضغط لإجبار المقاومة على وقف عملياتها على الجبهة الشمالية.