الوقت - رغم أن الحرب في غزة تجري في بيئة جغرافية صغيرة، إلا أن أبعادها تجاوزت الحدود الدولية، ولعبت دوراً مهماً في توجيه السياسة الخارجية للدول الكبرى.
بعد تنظيم احتجاجات دولية حاشدة في الدول الغربية دعماً للشعب الفلسطيني، والتي أصبحت الشغل الشاغل لرجال الدولة في هذه الدول، ظهرت أولى آثار ذلك بوضوح في الانتخابات البرلمانية البريطانية.
في الانتخابات البرلمانية البريطانية التي جرت الخميس الماضي، عاد حزب العمال إلى السلطة بعد 14 عاماً من وجوده في جبهة المعارضة، وبفوز تاريخي في الانتخابات العامة البريطانية، حصل على نحو 412 مقعداً، أي أكثر من المقاعد الـ 326 اللازمة للفوز بالأغلبية المطلقة في هذا البلد.
ورغم عدم رضا الشعب البريطاني عن السياسات الاقتصادية لحكومة رئيس الوزراء السابق ريشي سوناك، الأمر الذي لعب دوراً كبيراً في تقليص أصوات حزب المحافظين، لكن موقف حكومة سوناك من حرب غزة، كان حاسماً في ابتعاد المواطنين البريطانيين عن المحافظين.
منذ حرب غزة في أكتوبر 2023، وقفت حكومة ريشي سوناك إلى جانب الکيان الصهيوني بكل قوتها ودعمت الإبادة الجماعية الفلسطينية، وساعدت حكومة سوناك، بالتعاون مع الولايات المتحدة، الجيش الصهيوني في التدمير الكامل للبنية التحتية في غزة وجماعات المقاومة والمدنيين، من خلال تقديم مساعدات أسلحة ضخمة لکيان الاحتلال، والدعم اللوجستي والاستخباراتي في الأراضي المحتلة.
إن التصويت السلبي على القرارات المناهضة للکيان الإسرائيلي في مجلس الأمن الدولي، ومعارضة إحالة قضية الإبادة الجماعية التي ارتكبها الکيان الصهيوني إلى المحكمة الجنائية الدولية، جعلا من لندن شريكاً في جرائم المحتلين في غزة.
أثار هذا الدعم المتواصل من الحكومة البريطانية للصهاينة غضب شعب هذا البلد، وفي الأشهر الأخيرة، أعرب آلاف الأشخاص عن معارضتهم للإبادة الجماعية الفلسطينية، من خلال النزول إلى الشوارع والمطالبة بإنهاء مساعدات لندن لتل أبيب.
وكانت موجة المعارضة واسعة النطاق إلى درجة أن الناس صوّتوا في انتخابات الخميس الماضي لمصلحة حزب العمال وغيره من الأحزاب المؤيدة للفلسطينيين، معربين عن براءتهم من السياسات المحافظة.
صحيح أن قيادة حزب العمال انحازت إلى سياسة حكومة المحافظين الداعمة للإبادة الجماعية ودعمت تصرفات الکيان الصهيوني، وأدلى زعيم حزب العمال كير ستارمر بتصريحات مثيرة للاشمئزاز ومروعة، ولكن بعد ضغوط كبيرة، غيّرت قيادات هذا الحزب مواقفها، وأيّدت وقف الصراع في غزة ووقف إطلاق النار، وإرسال المساعدات الإنسانية إلى سكان هذا القطاع، وهذا الإجراء منصوص عليه بوضوح في برنامج حزب العمال.
حتى أن بعض ممثلي حزب العمال، لعبوا دورًا نشطًا في الاحتجاجات البريطانية الداعمة لفلسطين، وكان "آندي ماكدونالد"، عضو مجلس العموم في هذا البلد، أحد هؤلاء الأشخاص الذين أوقفهم حزبه عن العمل، لمرافقته شعارات الفلسطينيين في مظاهرة "من النهر إلى البحر".
وأظهر وجود شخصيات من حزب العمال في الاحتجاجات المناصرة لفلسطين، أن المعارضة لجرائم الکيان الإسرائيلي في غزة لا تقتصر على مسلمي هذا البلد فحسب، بل كان المسيحيون أيضاً إلى جانب شعب غزة المظلوم.
وبالنظر إلی الآراء المؤيدة لبعض ممثلي حزب العمال للشعب الفلسطيني، فإن الناس يريدون أن يستمر هذا الحزب في سياساته المعلنة تجاه القضية الفلسطينية في الحكومة المقبلة.
فوز أنصار فلسطين
على الرغم من فوزهم بالأغلبية، إلا أن بعض ممثلي حزب العمال، الذين يدعمون الکيان الصهيوني، خسروا أمام منافسيهم المستقلين في بعض المناطق.
إن انتصار عدد من المرشحين المستقلين المؤيدين للفلسطينيين في الانتخابات البرلمانية البريطانية، يدل على حقيقة أن حرب غزة كانت حدثاً حاسماً خلق ديناميكيةً ناشطةً داخل السياسة البريطانية، وبين المسلمين.
نجح زعيم حزب العمال السابق جيرمي كوربين في الاحتفاظ بمقعده القديم في إيسلينجتون، شمال لندن، كمستقل، متغلبًا على منافسه العمالي بأكثر من 7000 صوت.
لطالما كان كوربين مؤيدًا للفلسطينيين، وتضمن موقفه دعوات لإنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية، وكان أحد الأسباب الرئيسية لعزله من حزب العمل، هو مواقفه المناهضة للصهيونية.
ويظهر فوز هؤلاء الأشخاص في الانتخابات الأخيرة بأصوات عالية، أن دعم فلسطين لعب دوراً مهماً في زيادة قاعدتهم الشعبية في بريطانيا، وقال شوكت آدم، أحد المرشحين المستقلين الذي يدين بفوزه لدعم الشعب الفلسطيني، بعد فوزه: "هذا من "نعم غزة".
وقبل الانتخابات البرلمانية، طلبت حملة "صوت المسلمين" من المواطنين البريطانيين التصويت لمرشحين مؤيدين للفلسطينيين، سواء من حزب العمل أو المستقلين، وكانت نتيجة هذه الدعوات واضحةً للعيان في صناديق الاقتراع، وزعماء لندن الجدد يدركون هذا الأمر.
وفي هذا الصدد، أكد "ديفيد ليمي" وزير الخارجية البريطاني الجديد، في أول موقف سياسي له بعد تعيينه: "الآن يجب أن نعمل على وقف فوري لإطلاق النار، وإطلاق سراح السجناء".
يريد العديد من البريطانيين إنهاء القتل وتحقيق العدالة في فلسطين، إنهم يريدون من ممثليهم أن يتحدثوا علناً ضد الإبادة الجماعية وغيرها من الانتهاكات الصارخة للقانون الدولي، حتى عندما يرتكب تلك الانتهاكات النظام المتحالف استراتيجياً مع بريطانيا.
بالإضافة إلى ذلك، يعترف العديد من المواطنين البريطانيين بالتواطؤ التاريخي لهذا البلد في تجريد الفلسطينيين من أراضيهم، ويطلبون من الحكومة اتخاذ موقف مبدئي بشأن هذا الصراع من أجل التعويض عن أخطاء الماضي، ولهذا السبب فإن الموقف الأولي لزعيم حزب العمال بشأن غزة، دفع العديد من الناخبين إلى إدارة ظهورهم للحزب.
لقد خسر حزب يتمتع بقاعدة طويلة الأمد بين المسلمين والأقليات الأخرى، ما يقرب من 20% من أصوات المسلمين في الانتخابات الأخيرة، وأظهر استطلاع للرأي أجري الشهر الماضي، أن 44 في المئة من الناخبين المسلمين صنّفوا حرب غزة كواحدة من أهم خمس قضايا لديهم، وقال 85 في المئة إنهم يفكرون في دعم مرشح مستقل يدعم القضية الفلسطينية.
التوقعات العامة من حزب العمال
لا شك أن الشعب البريطاني، من خلال تصويته لحزب العمال وغيره من الممثلين المستقلين المؤيدين للفلسطينيين، لديه توقعات من الحكومة المقبلة، وعلى الرغم من أن حزب العمال يدعم الکيان الصهيوني، إلا أنه يدعم أيضًا حل الدولتين من أجل إرضاء طرفي الصراع.
وأكد دال فانسي، أحد أكبر المانحين لحزب العمال وأحد أكبر الداعمين لفلسطين، في تغريدة على منصة إکس: "إن إعلان ستارمر عن الالتزام بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، هو خطوة في الاتجاه الصحيح، هناك ضغوط متزايدة لإنهاء هذه الحرب المروعة، وكذلك إنهاء أكثر من 50 عامًا من الاستعمار غير القانوني، وجعل حل الدولتين هو الحل الواقعي الوحيد".
کما دعا العديد من المسلمين البريطانيين وغيرهم من الناخبين، زعماء الحزب إلى أن يكونوا أكثر صراحةً في إدانتهم لارتفاع عدد القتلى وتفاقم الأزمة الإنسانية في غزة، ويريدون من الحكومة الجديدة أن تمارس الضغط على الکيان الإسرائيلي، للتوصل إلى وقف فوري لإطلاق النار مع حماس.
وقال مسلمون بريطانيون إن وجهة نظر حزب العمال بشأن حرب غزة، تتعارض بشكل واضح مع التزام الحزب التاريخي بمناهضة الاستعمار، وما حدث الآن هو أن التعاطف مع الفلسطينيين ازداد، واضطر أعضاء الحزب إلى تغيير وجهات نظرهم تجاه "إسرائيل"، بل إن بعض الخبراء ذهبوا إلى أبعد من ذلك، وطالبوا بإدانة ريشي سوناك في المحاكم الدولية لتورطه في ارتكاب جرائم حرب في غزة.
وكتب ميدل إيست مونيتور في تقرير حول هذا الأمر: "يجب على حزب العمال أن يتخذ الموقف الذي أعلنه ديفيد لامي، عندما قال إن حكومة حزب العمل ستنفذ أوامر الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت، بمجرد إصدار المحكمة للحكم".
على الرغم من مطالبة البريطانيين العلنية بتقليص دعم لندن للکيان الإسرائيلي، يعتقد بعض المراقبين أنه من غير المرجح أن يغيّر حزب العمال موقفه الداعم لتل أبيب، لكنه سيحاول إنهاء الحرب الحالية وإقامة وقف لإطلاق النار.
ومع ذلك، فإن تراجع الدعم الإسلامي لحزب العمال، والتصويت للمرشحين المستقلين المؤيدين للفلسطينيين للمستأجرين الجدد لمبنى رقم 10 في داوننغ ستريت، ينقل رسالةً مفادها بأنه من أجل الحصول على دعم المسلمين البريطانيين، يجب عليهم إجراء تغييرات في نهجهم تجاه القضية الفلسطينية.