الوقت- ما هو الجانب الذي تدعمه تركيا في الحرب بين روسيا وأوكرانيا؟ يمكن أن تكون الإجابة على هذا السؤال مختلفة.
فمن ناحية، تدعم أنقرة كييف عسكرياً ودبلوماسياً، ويتعهد رجب طيب أردوغان بعدم الاعتراف أبداً بالأراضي الأوكرانية التي استولت عليها روسيا (اتخذت تركيا الموقف نفسه بعد ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014)، وعلاوة على ذلك، وبفضل تركيا، تواصل أوكرانيا تصدير المواد الغذائية عبر البحر الأسود، ولعبت أنقرة في البداية دورًا رئيسيًا في توقيع اتفاقية الحبوب، وبعد فشل الخطة، أعطت مياهها الإقليمية لأوكرانيا لإنشاء ممر لنقل الحبوب.
ومن ناحية أخرى، لم تنضم أنقرة إلى العقوبات الغربية ضد روسيا، وبالإضافة إلى ذلك، أصبحت تركيا أحد المشترين الرئيسيين للنفط الروسي بعد الصين والهند، وأصبح مطار إسطنبول أهم مركز طيران إلى المدن الروسية وسنشهد في الأيام المقبلة تواجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في إحدى الدول الأوروبية.
وأجرت تركيا حتى الآن عدة مراحل من المناورات بين روسيا والغرب، وفي كل مرة كانت تقترب من أحد الطرفين، وفي الوقت نفسه، لجأ أردوغان إلى الولايات المتحدة وحلفائها في أحدث انحيازاته.
وفي نهاية يناير/كانون الثاني، وافق البرلمان التركي أخيراً على انضمام السويد إلى منظمة حلف شمال الأطلسي (يتطلب انضمام الدول الجديدة إلى هذه المنظمة موافقة جميع الدول الأعضاء في منظمة حلف شمال الأطلسي)، وظلت هذه القضية لفترة طويلة محل مساومة بين تركيا والغرب، وكان الأتراك ينتظرون التنازلات من ستوكهولم وواشنطن.
ومن الواضح أن أردوغان حصل على ما أراد، فقبل وقت قصير من التصويت في البرلمان التركي، وافقت وزارة الخارجية الأمريكية على صفقة بقيمة 23 مليار دولار لبيع 40 طائرة مقاتلة جديدة من طراز F-16 إلى تركيا وتحديث 79 طائرة مقاتلة أخرى، دون معارضة من الكونجرس.
لدى شركة لوكهيد مارتن، التي تصنع طائراتF-16، الكثير من الأعمال المتراكمة لدرجة أن تسليم الطلب التركي سيستغرق سنوات، لكن هذه الصفقة مهمة جدًا من الناحية السياسية بالنسبة للأتراك، وتحتاج تركيا إلى هذه المقاتلات لتعويض استبعادها من شراء الموديل الاحدث وهو طائرات F-35، وكان ذلك بمثابة عقوبة فرضها الأمريكيون على أنقرة لحصولها على أنظمة الصواريخ الروسية المضادة للطائرات من طراز S-400 في عام 2019.
أدت الصفقات العسكرية بين موسكو وأنقرة إلى توتر العلاقات مع واشنطن لدرجة أن سلطات الولايات المتحدة طبقت قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات (كاتسا) على أنقرة وأضافت وكالة شراء الأسلحة التركية إلى قائمة العقوبات.
ولكن يبدو أن تركيا والولايات المتحدة قد وضعتا بعض الخلافات جانباً خلال العام الماضي واستأنفتا التعاون في قضايا تتراوح بين توسيع حلف شمال الأطلسي إلى المشاركة في الشرق الأوسط وسط حرب غزة.
علاوة على ذلك، تبدو تركيا مستعدة للامتثال للعقوبات الأمريكية الثانوية ضد روسيا، وبعد أن وقع جو بايدن على أمر تنفيذي في ديسمبر/كانون الأول الماضي يقضي باتخاذ إجراءات صارمة ضد الشركات الأجنبية التي تتعاون مع مجمع الدفاع الروسي، بدأ عدد من البنوك التركية في إغلاق حسابات الشركات الروسية، وحسب كوميرسانت (وكالة الأنباء الروسية)، فقد تم تطبيق بعض الاستثناءات فقط على فروع البنوك الأجنبية في روسيا.
وفي الوقت نفسه، وسّعت تركيا وجودها في البحر الأسود، وفي 11 يناير/كانون الثاني، أعلن وزير الدفاع التركي يشار جولر، بدء مناورات بحرية بمشاركة رومانيا وبلغاريا في البحر الأسود، ويشمل هذا التمرين إزالة الألغام البحرية وسفن الدوريات والمروحيات والطائرات دون طيار، والهدف من هذه المناورة البحرية هو تطهير الطرق البحرية من الألغام التي أعاقت بشكل خطير الشحن في البحر الأسود منذ بداية الحرب الأوكرانية.
ومن الناحية النظرية، من الممكن أن ينضم أعضاء آخرون في حلف شمال الأطلسي إلى هذه المجموعة البحرية، لكن تركيا تطبق بشكل صارم المعايير الدولية التي تحظر مرور السفن العسكرية التابعة للدول المطلة على البحر الأسود عبر مضيق البوسفور في وقت الحرب.
ومع ذلك، وعلى الرغم من أهمية الخطوات الموصوفة، فإن هذه التدابير تمثل تعديلاً تكتيكيًا أكثر من كونها مراجعة لاستراتيجية السياسة الخارجية التركية، ولا يبتعد أردوغان شخصياً ولا النخب التركية بشكل عام عن روسيا.
وتمثل تجارة الطاقة جوهر العلاقات بين موسكو وأنقرة، ووفقا لتقارير رويترز، وصلت واردات النفط الخام الروسية إلى تركيا إلى مستوى قياسي بلغ 400 ألف برميل يوميا في نوفمبر، وهو ما يمثل 14 بالمئة من إجمالي إمدادات النفط الروسية المنقولة بحرا.
ومن المرجح أن يستمر هذا النمو في عام 2024، وعلى وجه الخصوص، يتضمن العقد الجديد بين شركة لوك أويل (شركة النفط الروسية) ومصفاة إيستار التركية الواقعة بالقرب من إزمير، توريد 200 ألف برميل من النفط يوميًا ومنح قرض بقيمة 1.5 مليار دولار.
ومن الواضح أن بعض النفط الروسي الذي يتم توفيره حاليًا لمصفاة لوك أويل في بلغاريا سيتم تحويله إلى المصافي التركية، حيث تخضع هذه المصفاة لإعفاء مؤقت من عقوبات الاتحاد الأوروبي.
ويظهر العقد الجديد أن تركيا تعتزم تأمين دورها كمركز رئيسي لصادرات النفط الروسية، بما في ذلك إلى الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى ذلك، تعمل تركيا بنشاط على إعادة تصدير وقود الديزل والمنتجات النفطية الأخرى لمصلحة الاتحاد الروسي، ومن الجدير بالذكر أن استيراد هذه المنتجات إلى تركيا تضاعف ثلاث مرات في عام 2023.
والمسألة لا تقتصر على النفط. وأصبحت تركيا وجهة مهمة لصادرات الغاز الطبيعي الروسي، وينتهي عقد العبور المبرم بين غازبروم وأوكرانيا في نهاية هذا العام، ما يعني أن السيل التركي قد يصبح الطريق الوحيد لتصدير الغاز من روسيا إلى الاتحاد الأوروبي.
وقد وقعت شركة بوتاش المملوكة للدولة في تركيا بالفعل عقودًا مع شركات من المجر ومولدوفا، ويجري أيضًا الوصول إلى نظام توزيع الغاز البلغاري عبر خط أنابيب عبر البلقان.
وبعبارة أخرى، تستطيع تركيا شراء الغاز الروسي من شركة غازبروم، ومزجه بالغاز من مصادر أخرى، وإعادة بيعه إلى الدول الأوروبية التي تتطلع إلى تنويع موردي الطاقة لديها، وفي عام 2023، أجرى بوتين خلال زيارته لتركيا محادثات حول إنشاء مركز للغاز مع نظيره التركي.
لكن حتى من دون اتفاق رسمي، فإن الجانب التركي مع مبادلة الغاز الروسي يمكن أن يمنح أنقرة ربحا كبيرا بسبب عدم وصول شركة غازبروم الروسية إلى سوق الغاز الأوروبي بسبب العقوبات المفروضة على هذا البلد.
وبينما تستفيد تركيا بشكل هائل من تجارة الطاقة الروسية مع أوروبا، فإن التحول الطفيف نحو الغرب لن يكون له تأثير يذكر على علاقاتها مع روسيا، وفي المقابل، تحتاج موسكو إلى تركيا اليوم أكثر من أي وقت مضى، لأن تركيا أصبحت إحدى القنوات الرئيسية لاتصال موسكو الاقتصادي مع العالم الخارجي.
وفي الوقت نفسه، تفضل واشنطن عدم الدخول في صراع دبلوماسي أو عسكري مع تركيا، بل تفضل حل قضاياها مع أنقرة على طاولة المفاوضات، ولقد تعلمت كل من الولايات المتحدة وروسيا كيفية التعامل مع المناورات السياسية التي يقوم بها رجب طيب أردوغان.