الوقت - مساء الجمعة الماضي، نفذ الكيان الصهيوني الهجوم البري الرابع على غزة خلال الأيام القليلة الماضية، لكن هذا الهجوم لم يستمر أكثر من بضع ساعات.
وفي وصف هذا الهجوم، الذي رافقته غارات بحرية وجوية، استخدمت عبارة "الهجوم الإسرائيلي الأكثر جنوناً منذ الـ 7 من تشرين الأول " (فوكس نيوز)، أو "أشد هجمات إسرائيل منذ بداية هذه الحرب"(الجزيرة)، لأن الصهاينة هاجموا هذا القطاع من البر والجو والبحر بكل أنواع الأسلحة المحرمة وغير المحرمة.
في العديد من التقارير، ولفهم الجنون في أسلوب هذا القصف، قيل "تخيلوا أن يتم إسقاط أكثر من 200 قنبلة قوية على منطقة مساحتها 5 × 5 كيلومترات، وتقوم عشرات الطائرات المقاتلة بقصف تلك البقعة في آن واحد"، حتى تتمكن القوات البرية الإسرائيلية من دخول غزة!
لكن الصهاينة اضطروا إلى التراجع بعد 500 متر من الاختراق، فيما تكبدوا خسائر فادحة، وتقول مصادر فلسطينية إنه تم تدمير ما لا يقل عن 30 دبابة ومدرعة للصهاينة خلال هذه العملية التي استمرت أربع ساعات، كما أوقعوا خسائر في صفوف الجنود المعتدين.
ويقول الصهاينة أيضًا إنهم انسحبوا بعد قتل 100 فلسطيني (عسكريين ومدنيين)، وهذا ملخص كل ما نشره الطرفان بشأن الهجوم البري الرابع للصهاينة على غزة في الأيام الماضية، وما زال التحليل حوله مستمراً.
في هذه الأثناء، ظهرت أسئلة يبحث الرأي العام عن إجابات لها، مثلاً لماذا يتهرب الکيان الإسرائيلي من الهجوم البري الذي وعد به منذ فترة طويلة؟ أو إذا كان يفعل ذلك، فلماذا تستمر هذه الهجمات بضع ساعات فقط؟ وسؤال آخر هو لماذا يقتل الصهاينة النساء والأطفال بهذه السهولة؟ وهل هم غير قلقين بشأن العواقب التي لا يمكن إصلاحها لغبائهم؟.
للإجابة عن السؤالين الأخيرين، نحاول الاستفادة من المواضيع والأفكار في مجال "علم اجتماع الجريمة".
قبل البدء بالنقاش، لننتبه أولاً إلى النقطة المهمة، وهي أن المقاومة الفلسطينية دخلت الأراضي المحتلة في الـ 7 من أكتوبر، وعبرت الحدود في أقل من 20 دقيقة، وخلال ساعات قليلة قتل أو جرح وأسر عدة آلاف من الصهاينة، وكانت هذه الضربة الاستخباراتية والأمنية والعسكرية ثقيلةً وغير عادية، لدرجة أن أکبر الاستراتيجيين في العالم ما زالوا يقومون بتحليلها.
قلنا ذلك لنستنتج أن أحد أسباب اعتداءات الصهاينة الجنونية على النساء والأطفال الفلسطينيين في غزة واستشهاد 7500 فلسطيني، أكثر من 97% منهم من المدنيين، هي ضربة 7 أكتوبر.
لقد قتل الصهاينة أو جرحوا 7000 طفل ورضيع في 20 يومًا فقط هربًا من تلك الإهانة التاريخية، إنهم يسفكون الدماء لكي يشفوا غليلهم أولاً، وثانياً، ليقنعوا المستوطنين الذين جمعوهم من كل أنحاء العالم بالوعود، بالبقاء في هذه الأرض المغتصبة.
بالنسبة لکيان يعتبر نفسه "أقوى دولة في العالم" في مجال الاستخبارات، ويطلق على جيشه لقب "رابع أكبر جيش في العالم"، فإن الهزيمة في غضون 20 دقيقة ليست ضربةً بسيطةً ولا إهانةً صغيرةً.
والجواب على سؤال "لماذا لا يتم هجوم بري على غزة"، هو أن هذا الهجوم يحدث، وقد حدث أربع مرات في الأيام الماضية، ولکن في الساعات الأولى وبداية الخسائر البشرية والأضرار، يوقف الصهاينة الهجوم، وما الهراء من قبيل "كان مجرد اختبار" إلا لإقناع الرأي العام.
ومن الأفضل أن نسمع الإجابة عن هذا السؤال من "نداف أرغمان" رئيس الشاباك السابق: "إذا بدأ الجيش الإسرائيلي حرباً بريةً، فسوف يُقتل الجميع باستثناء عدد قليل منهم، لقد قتل منا 2000 شخص وأسر 300 شخص منذ السبت الأسود (7 أكتوبر، بداية عملية طوفان الأقصى)، لو دخلنا غزة براً سيكون لدينا 10 آلاف قتيل و1000 أسير... لدينا معلومات تفيد بأن حماس حصلت على أسلحة فريدة من نوعها لم تكشف عنها بعد"، كما أشارت صحيفة نيويورك تايمز نقلاً عن مصادرها، بأن "خوف نتنياهو من الفشل" هو سبب هروبه من الهجوم البري على غزة.
لكن السبب وراء ذلك ليس فقط الخوف من تلك الأسلحة التي "لم تكشف عنها حماس بعد"، حسب نداف أرغمان، بل يعود جزء من هذا الخوف إلى طبيعة سكان غزة، فلا يمكن أن تجدوا شخصاً واحداً في غزة لم يستشهد أخوه أو أخته أو عمه أو صديقه أو أبوه أو أمه على يد الصهاينة، لدى جميع سكان غزة شهيد واحد على الأقل بين أقاربهم وأصدقائهم المقربين.
ويضيف أرغمان: إن المجتمع الذي نشأ على الرصاص والمدافع والحصار والدم، يختلف عن المجتمع الذي هاجر إلى فلسطين بحثاً عن الرخاء والمرح، هل سألت نفسك أنه في الأيام الأولى للحرب عندما كان معبر رفح مفتوحًا، لماذا لم يخرج الفلسطينيون من غزة؟! أو لماذا امتلأت المطارات الإسرائيلية، لدرجة أن الصهاينة أغلقوا المطارات حتى لا يقوم الصهاينة بالهجرة المعکوسة؟
هذه أسئلة مهمة جدًا، ألم يعلم الفلسطينيون أن الصهاينة يقتلون النساء والأطفال، ويسوون غزة بالأرض؟ ألم يعلموا أن أمريكا والغرب سيقفون خلف الصهاينة ويزودونهم بأحدث أسلحة العصر وأكثرها رعباً؟ كانوا يعلمون، لكننا رأينا أن الجميع بقوا، باستثناء مجموعة صغيرة، والصهاينة يخافون من هذه الروح بالضبط.
ولكن لماذا يقتل الصهاينة الناس بهذه السهولة؟ ألا يشعرون بالقلق من عواقب هذه الجرائم الفظيعة؟ يمكن إعطاء إجابات مختلفة. عندما سُئل فيكتور فرانكل، عالم النفس النمساوي الشهير، عن عقلية بعض الجلادين والمجرمين، أجاب بأن الكثير من هؤلاء الجلادين لديهم شخصية سادية.
ولذلك، فإن ارتكاب الجرائم لا يقتصر على عدم المعاناة من عذاب الضمير، بل الاستمتاع به أيضًا، ويمكن أن يكون هذا بالتأكيد جزءًا من إجابة سؤالنا، وفي مجال "علم اجتماع الجريمة" هناك نقاشات حول الأسباب التي تجعل المجرم يرتكب الجريمة، وهو ما قد يساعد في العثور على إجابة لسؤالنا هنا.
باختصار، عندما يريد الإنسان أن يأذن (لنفسه أو لغيره) بارتكاب جريمة، فإنه يبررها بما يسهل عليه ارتكابها، وربما يكون كلام جدعون ليفي، مراسل صحيفة هآرتس القديم، مثالاً جيداً جداً لفهم هذه القضية، إنه يذكر ثلاثة مبادئ تجعل الصهاينة يعيشون بهدوء رغم ارتكابهم جرائم فظيعة:
المبدأ الأول: "معظمنا نحن الإسرائيليين - إن لم يكن جميعنا - نؤمن من أعماق قلوبنا بأننا الشعب المختار، ولذلك يحق لنا أن نفعل ما نريد"!
المبدأ الثاني: "لقد حققنا رقماً قياسياً في الاحتلال، ولكن لم يكن هناك أي محتل في التاريخ قدّم نفسه كضحية! ليس الضحية فقط، بل الضحية الوحيدة في المشهد! وهذا يسمح لنا نحن الإسرائيليين أيضًا بالعيش في سلام وهدوء على الرغم من الجرائم اليومية، لأننا نعتقد أننا ضحايا"!
المبدأ الثالث: "والذي ربما يكون الأهم والأسوأ، هو تجريد غير اليهود من إنسانيتهم بشكل منظم، نحن لا نعتبر غير اليهود بشرًا لهم حقوق الإنسان(!)، وإذا سلخنا جلد الإسرائيليين لرأينا هذه المبادئ الثلاثة"!
وسواء كان الصهاينة يشعرون بالقلق من عواقب جرائمهم أم لا، فإن هذه العواقب قد أثرت عليهم بالفعل، لا تشكوا لحظةً واحدةً في أن "إسرائيل قبل 7 أكتوبر وإسرائيل بعد 7 أكتوبر" ستكون بينهما اختلافات جوهرية؛ حتى لو بدؤوا هجمات برية واسعة النطاق على غزة اليوم، وقتلوا مئات الآلاف من النساء والأطفال.
اليوم، هناك مظاهرات غير مسبوقة ضد الصهاينة في العالم، سواء من حيث الحجم أو الجغرافيا، وتستمر هذه المظاهرات من شرق العالم إلى غربه، ولم تتوقف يوماً واحداً خلال الـ 23 يوما الماضية.
إن غضب الرأي العام العالمي ضد جرائم الصهاينة وحده يكفي لنشر الكراهية تجاه الصهاينة، الذين كان كل جهدهم خلال تاريخهم الممتد 70 عاماً هو "القمع من خلال نشر أسطورة المحرقة".
اليوم، وصل الصهاينة إلى بؤس عميق، لدرجة أن ممثلهم في الأمم المتحدة، بعد القرار المناهض للصهيونية الذي صدر بأصوات عالية وحاسمة للغاية، قال: "إن الرأي العام العالمي ليس مهماً بالنسبة لنا"، الوصول إلى هذه النقطة من الوقاحة، هل يعتبر ضربةً خفيفةً؟!.
إذا احتل نتنياهو قطاع غزة وسيطر عليه بالکامل، فلن يتمكن أبداً من التعافي من الضربة التي تلقاها في الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر، والضربات التي سيتلقاها، والضربة الأخيرة التي سيتلقاها في قادم الأيام.