الوقت_ مؤخراً، كشفت وسائل إعلام عبرية عن توسع الهجرة العكسية للخبراء الصهاينة خارج فلسطين المحتلة، حيث كشفت القناة الـ 12 التلفزيونية الإسرائيلية في تقرير بثته في الفترة الماضية، أن أجهزة الأمن الإسرائيلية عبرت عن قلقها من وجود هجرة كبيرة للأدمغة وخاصة في مجال الإنترنت، مع تأكيد خبراء من خارج فلسطين المحتلة أن هذه الظاهرة أصبحت مشكلة لكبار المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين في الوقت الحاضر، فيما يعرب مسؤولون أمنيون إسرائيليون رفيعو المستوى، وخاصة النشطاء في مجال الأمن السيبراني وهياكل الإنترنت الهجومية، عن قلقهم بشدة من أن سرقة أو هروب العقول من "إسرائيل" يمكن أن يكون له آثار سيئة عليها، في حين أن هؤلاء الخبراء أنفسهم يواجهون عروضاً مغرية من جهات خارجية.
ظاهرة مُقلقة
نعلم جميعاً أنّ نصف المجتمع الإسرائيليّ يؤيّد حكومة الفاشي بنيامين نتنياهو السادسة، والتي تعمل بكل جهد –كما تقول الوقائع والمعارضون- بهدف القضاء على ما تبقّى ممّا يطلق عليه بعض الصهاينة "الديمقراطيّة الإسرائيليّة"، وبالتالي تحويل الكيان من مرحلة العنصريّة إلى الفاشيّة، بالاعتماد على السلطة الدينيّة والمتشددين وتعزيز العرقيّة، فيما يرفض الجزء الآخر والذي يمثل نصف مجتمع العدو –على أقل تقدير- هذا الوضع، ويسعون بقوّة لأن يكون الكيان ليبراليّاً لأبعد حد، ويذهب أغلب المحللين إلى أنّ الكيان أمام طريقين لا ثالث لهما، إما الذهاب نحو تخلخل المجتمع الإسرائيليّ وانعدام استقراره نتيجة الصراعات، أو حدوث حربٍ أهليةٍ بين المعسكرين اليمينيّ الدينيّ المتزمت والحاكم، وبين القوى الديمقراطيّة والليبراليّة، المُكونّة بسوادها الأعظم من اليهود الذين تمّ استجلابهم عن طريق الحركة الصهيونيّة من دول أوروبا، كما أنّ الهجرة من فلسطين –بعد أن كانت إليها- باتت موضوعًا مطروحًا بقوّةٍ بالنسبة لجزء يسير من الصهاينة، فيما بدأ عدد مناصري من يتحدث بتلك الأفكار ولا يطبقها يتزايد بكثرة يوما بعد آخر.
وعلى هذا الأساس، كشفت القناة الـ12 التابعة للكيان الصهيوني، نقلاً عن مصدر أمني إسرائيلي، أنه قبل أسابيع قليلة، أثارت ظاهرة قلق كبار المسؤولين في الهيكل السيبراني الإسرائيليّ بشدة، وظهر هذا الهلع بعد أن أنشأت وكالة أمريكية شركة في إسبانيا وبدأت بتعيين خبراء إنترنت إسرائيليين بعروض مثيرة للغاية، وقد شكّل تعرض عدد كبير من المواقع الحكوميّة التابعة لـ"إسرائيل" إلى هجمات سيبرانية في الفترة الماضية -كانت الأكبر من نوعها- صفعة للكيان العنصريّ وأحدث ضجة واسعة في الشارع الصهيونيّ، حيث اعتاد الإسرائيليون كل فترة على أنباء اختراق شركاتهم ومؤسساتهم وقرصنة خوادهما، في ظل تعتيم كامل من قبل حكومة العدو على معلومات الاختراق وحجم الأضرار الكبيرة الذي ألحق بها بعدما اخترق قراصنة عبر الإنترنت مواقع مؤسساتها الإلكترونيّة، وحصلوا بما لا شك فيه على قدر غير معروف من المعلومات المهمة وتسببوا بإرباك غير مسبوق للإسرائيليين.
"إن هروب الأدمغة الإسرائيلية إلى هذه الشركة الأمريكية في إسبانيا يعني وضع إصبع في عين "إسرائيل"، وخاصة أن الكثيرين منهم هاجروا بالفعل وحتى حصلوا على تصاريح عمل في إسبانيا، ففي عام 2013، منحت جائزة نوبل في الكيمياء لثلاثة أمريكيين، اثنان منهم ولدوا في فلسطين المحتلة وهاجروا إلى الولايات المتحدة، وقد وجدت دراسة -في العام نفسه- من مركز تاوب لدراسات السياسة الاجتماعية في "إسرائيل" أنه منذ عام 2008، غادر أكثر من واحد بقليل من كل خمسة أعضاء هيئة تدريس في الجامعات الإسرائيلية فلسطين للعمل في الجامعات الأمريكية.
إضافة إلى ذلك، وجد معهد "شورش" الاجتماعي والاقتصادي في الكيان أنه مقابل كل إسرائيلي يحمل شهادة أكاديمية وعاد إلى "إسرائيل" من الخارج في عام 2014، غادر نحو 3 أشخاص، وبحلول عام 2017، ارتفع هذا الرقم إلى 4.5 مهاجرين لكل عائد، حيث إن قضية "هجرة الأدمغة" -هجرة الأشخاص المدربين تدريباً عالياً من بلد معين- ليست قضية جديدة بالنسبة للكيان الصهيوني، وقد أثيرت هذه القضية منذ ما يقارب ال 20 عامًا، لكن حكومة العدو الإسرائيلي لم تفعل شيئًا حيال ذلك، ووفقًا لوثيقة البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) لعام 2020 بعنوان "الإسرائيليون الحاصلون على تعليم أكاديمي في الخارج والخطوات المتخذة لإعادتهم إلى إسرائيل" ، فإن قضية هجرة الأدمغة "تم وضعها على جدول أعمال لجان الكنيست كل بضع سنوات" منذ البداية التسعينيات.
لماذا تهاجر الأدمغة الكيان
لا بد أن أحد أسباب هجرة الأدمغة هو وجود العديد من المراكز في العالم حيث يتدفق الأكاديميون بشكل طبيعي -وهو تحد تواجهه جميع البلدان- إلا أن كبار علماء الكيان يتم استدعاؤهم وجذبهم إلى مراكز أكبر بكثير، سواء كانت في الولايات المتحدة، أو في أوروبا، أو في سنغافورة، حيث إن معدل الهجرة إلى الولايات المتحدة من قبل الإسرائيليين المتعلمين تعليما عاليا هو من بين أعلى المعدلات من بين 28 دولة تم فحصها -أكثر من ثلاثة أضعاف- ، فيما يخسر كيان الاحتلال الأكاديميين بمعدل أكبر بكثير من الدول الأخرى.
سبب آخر لهجرة العقول هو كيفية عمل النظام الجامعي في كيان الاحتلال، المحكوم باتفاقية عمل جماعية لا تسمح بدفع رواتب تنافسية على أساس الإنجاز، كما أنه لا يسمح للجامعات بمطابقة العروض المقدمة من الجامعات خارج فلسطين المحتلة، وبالمثل، ترفض لجنة التعليم العالي تصنيف الجامعات أو السماح للجان الزائرة التي تدعوها بترتيبها وفقًا لمخرجاتها البحثية، أي إنه يرفض باستمرار فكرة أن الطلاب المحتملين بحاجة إلى معرفة آفاقهم في الالتحاق بكلية أو جامعة معينة في مجال معين والحصول على وظيفة ومقدار ما سيحصلون عليه، كما أن أعضاء هيئة التدريس الأكاديميين لديهم أعلى معدل للهجرة من "إسرائيل" بنسبة 7.8 في المئة، يليهم الأطباء بمعدل 6.5 في المئة، وأشار الكنيست إلى أن نسبة الإسرائيليين بين أعضاء هيئة التدريس المؤقتين في الولايات المتحدة أعلى بكثير من نسبة الأكاديميين من دول أخرى، إضافة إلى ذلك، فإن الفجوات الكبيرة في الرواتب بين الأقسام الأكاديمية الأمريكية الرائدة والجامعات الإسرائيلية تتزايد بأضعاف مع مرور الوقت، وعادةً ما تدفع الجامعات الحكومية الإسرائيلية الرواتب نفسها بغض النظر عن التخصص، والتي تتميز أساسًا بالرتبة والأقدمية.
من ناحية أخرى، إن مغادرة الأراضي الفلسطينية المحتلة نتيجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الجمة باتت واقعاً حقيقيّاً، وهذا ما تدعو إليه بعض الحركات الصهيونية التي طالبت جميع المهاجرين الصهاينة بالفرار من فلسطين، وقد ازدادت الأنباء المتعلقة بهذا الموضوع كثيراً عقب فوز زعيم المعارضة ورئيس الحكومة الإسرائيليّ المكلف بنيامين نتتياهو وفريقه، المؤلّف من العنصريين والفاشيين واليهود المتشددين بشكل لا يوصف، ما يعني بروز حركات جديدةً تحاول تجنيد عشرة آلاف مستوطن صهيونيّ في المرحلة الأولى لمغادرة الأراضي الفلسطينيّة المحتلة، حيث أوضحت صحيفة (معاريف) العبريّة قبل مدة، أنّ “المجموعة المسمّاة (معاً نرحل من هنا) حدّدّت هدفها الأول وهو جمع حوالي عشرة آلاف إسرائيليٍّ مهاجرٍ”.
ومع الإشارة إلى أنّ نصف المجتمع الصهيونيّ هو من العلمانيين الذين يرفضون رفضًا قاطعًا العيش في كيان احتلال يحكمه أتباع الصهيونيّة الدّينيّة، باعتبارهم يُحاوِلون فرض قوانينهم الدينيّة على نظام الحكم الاستعماريّ، لا تخفي المجموعات الصهيونيّة أنّ الواقع الذي يواجهونه في "إسرائيل" هو القمع والاستغلال الاجتماعي والاقتصادي، لا توجد إمكانية للاستمرار هناك، وهو تعليق واضح ومباشر من جمعيات صهيونيّة صدمت الحكومة الإسرائيلية وأعوانها بأهدافها الخطرة على مسقبل السرطان الاحتلاليّ، حيث إن "حكومة العدو تحفر قبر إسرائيل بنفسها"، وذلك بالنظر إلى أنّ كيان الاحتلال أصبح مستعبداً بشكل كامل لاحتياجات الجماعات الإسرائيليّة المتطرفة، وبالتالي سيدفع جزءاً كبيراً من الإسرائيليين أثماناً باهظة، وخاصة أنّ مؤسسات الكيان ستصبح بما لا شك فيه مسخرة لخدمة الصهاينة المتطرفين، وقد بات الإسرائيليون بشكل عام يشعرون بأنّ الكيان بأسره يعيش دور العبوديّة الكاملة للمتشددين، ما يطرح تساؤولات كثيرة حول مدى تأثير حكومة نتنياهو –راعي التشدد الأول- على مستقبل الكيان الإسرائيليّ.
خلاصة القول، يريد الإسرائيليون مغادرة فلسطين المحتلة بشكل جماعيّ، والدليل وجود عشرات الطلبات من قبل الصهاينة للحصول على مساعدةٍ في مجال الهجرة خارج فلسطين المحتلة، وخاصّةً من أولئك الذين يديرون بعض الأعمال التجارية أو الشركات الصغيرة، في الوقت الذي ينظم فيه مئات الإسرائيليين أنفسهم للهجرة الجماعية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يتعقد الوضع السياسي في الكيان أكثر بكثير من السابق، ما يضع المسؤولين الإسرائيليين باعترافهم أمام "تحد تاريخيّ"، مع سير الدولة اللقيطة في طريق فقدان هذا المشروع وانهيار طموحاتهم الاستعماريّة، والتي لم ينجح تطبيقها رغم كل عمليات التطهير العرقيّ والتهجير القسريّ المستمر بأعتى الأسلحة المتطورة حتى يومنا هذا، ناهيك عن تعزيز عمليات المقاومة بشكل كبير في مناطق مختلفة من الأراضي الفلسطينيّة السليبة، ما يُفشل بالفعل المبدأ الأساس الذي أُقيم عليه الكيان الغاصب لتحقيق وتجسيد الحلم الصهيونيّ على أرض فلسطين المحتلة وهو الإبادة الجماعيّة وزيادة عدد اليهود وإنهاء حالة المقاومة.
أيضاً، لن تستطيع "إسرائيل" بكل أسلحتها الغربية والأمريكيّة، وقف عملية التدمير الذاتيّ الداخليّ للكيان، إذ إنّ السرطان الذي يعاني منه كيان الاحتلال وبالأخص من الناحية الاجتماعية قد بلغ مراحله النهائية ولا سبيل لعلاجه، وإنّ ما تعيشه الأراضي الفلسطينيّة الرازحة تحت نير الإرهاب الصهيونيّ، يؤكّد أنّ لدى المجتمع الإسرائيليّ المنقسم على ذاته، أزمة ثقة كبيرة مع حكوماته فهو غارق بالمشكلات الاقتصادية والفوضى الأمنيّة والسياسية، لكنّ الإسرائيليين إن أجمعوا على شيء فهو "نهاية الكيان الإسرائيليّ" الذي جمع يهود العالم من أصقاع العالم لسلب هذا الأرض بكذبة أنّ فلسطين هي “أرض الميعاد” وأنّ اليهود هم “شعب الله المختار”، وأنّ القدس هي “مركز تلك الأرض”، وأنّها “مدينة وعاصمة الآباء والأجداد”، و”مدينة يهوديّة بالكامل”، بهدف الاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من أراضي الفلسطينيين بأقل عدد ممكن منهم، لكن وكما شجعت الحركة الصهيونيّة بشكل كبير جداً، هجرة يهود أوروبا الجماعيّة إلى أرض فلسطين خلال النصف الأول من القرن العشرين، لإبادة هذا الشعب وسلب أرضه، جاء دور الحركات الأُخرى لإعادة الصهاينة إلى بلادهم الحقيقيّة بعيداً عن هذا البلد الذي ذاق شعبه الأمرين.