الوقت- كانت إحدى السمات البارزة التي ميزت عقدين من حكم الرئيس رجب طيب أردوغان تشكيل سياسة خارجية ترتكز على 3 مبادئ، الميل نحو الاستقلال الاستراتيجي والتوازن بين القوى الكبرى والمزج بين القوة الصلبة والدبلوماسية في التعامل مع الطموحات والتحديات التي تواجه تركيا في محيطها الجنوبي.
ومع فوز أردوغان بولاية رئاسية ثالثة، ستستمر السياسة الخارجية لتركيا بالارتكاز على هذه المبادئ مع تعظيم دور الدبلوماسية لتعزيز عملية التوازن الدقيقة بين القوى الكبرى، ومنح زخم إضافي لعملية إعادة تصفير المشاكل مع دول الجوار ولا سيما العربية منها لأن مجال الأمن يطغى بشكل أكبر على غيره من المجالات في تشكيل السياسة الخارجية التركية، فإن تولي شخصية استخباراتية مهام وزارة الخارجية يُعزز الارتباط الوثيق بين مجال الأمن وصياغة السياسات الخارجية.
لقد أنهى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الجزء الأكبر من عملية إعادة تشكيل السلطة الجديدة في البلاد بعد الانتخابات.
من الملاحظات المهمة في التركيبة الجديدة أن بعض الشخصيات البارزة، التي تتولى مهامّ جديدة، لديها خبرة واسعة في مجالات أخرى حسّاسة، لدى هاكان فيدان، الذي سيقود الدبلوماسية التركية في الفترة المقبلة، خبرة كبيرة في الأمن والاستخبارات لما يقرب من عقد ونصف العقد، بفعل إدارته جهاز المخابرات التركي.
ولدى إبراهيم قالن، الذي سيقود جهاز المخابرات، خبرة واسعة في الدبلوماسية بفعل الوظيفة التي كان يشغلها سنوات، وهي مستشار الرئيس والمتحدّث باسم الرئاسة.
أما وزير الدفاع الجديد يشار غولو، فكان يشغل في السابق رئيس هيئة الأركان التركية. تهدف هذه التعيينات إلى تحقيق اندماج متكامل بين مجالي الأمن والدبلوماسية، واللذين سيشكّلان نقطة ارتكاز في السياستين الداخلية والخارجية في الولاية الجديدة لأردوغان.
وكبلد، يعاني من صراع تاريخي مع حزب العمال الكردستاني المحظور، ويُحيط به حزامٌ من الاضطرابات الأمنية والجيوسياسية، ويخوض صراعاً جيوسياسياً مزمناً مع اليونان وقبرص الجنوبية، كما تشغل الأبعاد الأمنية حيّزاً كبيراً في تشكيل علاقاته الخارجية مع قوى كبرى كروسيا والولايات المتحدة، فإن تحقيق اندماج متكامل بين مجالي الأمن والدبلوماسية يجعل تركيا أكثر قدرة على التعامل مع هذه التحديات. في ظل هذه التعيينات الجديدة، سيتمكن المسؤولون الجدد من توظيف خبراتهم الواسعة في المجالات الأخرى الحساسة لبناء سياسة أمنية ودبلوماسية أكثر فعالية ومنسجمة مع بعضها بعضا.
ويُعطي تعيين مدير الاستخبارات التركي السابق هاكان فيدان وزيرا للخارجية في الحكومة الجديدة التي شكّلها الرئيس رجب طيب أردوغان، بعض المؤشرات على طبيعة النهج الذي ستتبناه أنقرة في السياسة الخارجية في الفترة المقبلة. وفي السنوات التي قاد فيها جهاز الاستخبارات، أشرف فيدان على قنوات التواصل الخلفية (الأكثر حساسية) مع مختلف الفاعلين الإقليميين والدوليين، حيث لعب دورا بارزا في صياغة الجوانب الأمنية والاستخباراتية في العلاقة مع روسيا والولايات المتحدة، كما ساهم وراء الكواليس في ترتيب المصالحات مع الخصوم الإقليميين السابقين لتركيا كالإمارات وإسرائيل ومصر، وأشرف على قنوات التواصل الأمنية والاستخباراتية التي فتحتها أنقرة منذ سنوات مع الحكومة السورية علاوة على ذلك، كان لفيدان دور بارز في الصراع التركي مع حزب العمال الكردستاني المحظور وفرعه السوري وحدات حماية الشعب الكردية.
وسيتعين على فيدان رسم سياسة خارجية تتعامل بالدرجة الأولى مع بعض القضايا الأمنية الحساسة في السياسة الخارجية كالصراع مع حزب العمال الكردستاني والتحديات التي تواجه تركيا في الصراع الجيوسياسي مع اليونان وقبرص الجنوبية، فضلا عن إدارة العلاقات المضطربة مع الغرب من خلال الاعتماد بقدر أكبر على الدبلوماسية.
وفيدان هو أحد البيروقراطيين والمساعدين الرئيسيين للرئيس أردوغان طوال فترة حكمه منذ عام 2003، عندما أصبح أردوغان رئيساً لوزراء البلاد، ويتمتع فيدان بمهنية رائعة تتراوح من ضابط صف إلى أكاديمي ومن المناصب البيروقراطية إلى رئيس الاستخبارات الوطنية، وأخيراً إلى وزير الخارجية.
وأثناء توليه هذا المنصب، شغل أيضاً منصب الممثل الخاص لرئاسة الوزراء، وقام بأداء مهمات تتعلق بالإرشاد الخاص لرئيس الوزراء آنذاك أردوغان، والوفد التركي و"محافظاً" في الوكالة الدولية للطاقة الذرية في قمة المنظمة، وبصفته الممثل الخاص لرئيس الوزراء، اكتسب خبرة في مختلف الأزمات الدولية والمناطق المضطربة، كما تخصص في قضايا مكافحة الإرهاب أيضاً.
وفي عام 2010، عُين نائباً لرئيس جهاز الاستخبارات الوطنية للضروريات الإجرائية، ثم رئيساً للاستخبارات في سن 42 عاماً، حيث وُصف بأنه أصغر شخص يعمل كرئيس في تاريخ المؤسسة، وشغل هذا المنصب لمدة 13 عاماً. وإلى جانب حياته المهنية البيروقراطية، فإن مسيرته الأكاديمية مشرقة جدًا، فقد تخرج فيدان من مدرسة القوات البرية القتالية ومدرسة القوات البرية للغات، وخلال فترة عمله في الجيش الترطي، حصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية والعلوم الإدارية من جامعة ماريلاند في الولايات المتحدة، بعد ذلك، حصل فيدان على درجة الماجستير من جامعة "بيلكنت" من خلال أطروحته بعنوان "دور الذكاء في السياسة الخارجية" ودكتوراه في أطروحته بعنوان "الدبلوماسية في عصر المعلومات: استخدام تكنولوجيا المعلومات في التحقق من المعاهدات."
وبالنظر إلى الخبرة الواسعة التي اكتسبها فيدان في الأمن والاستخبارات، فإنها ستكون حاضرة في تشكيل سياسة خارجية جديدة توائم بين متطلبات الأمن والدبلوماسية. وكذلك الحال بالنسبة لإبراهيم قالن الذي ستُساعده الخبرة الدبلوماسية الواسعة التي اكتسبها في فترة عمله مستشارا أول لأردوغان في تشكيل سياسة أمنية واستخباراتية تُراعي متطلّبات الدبلوماسية.
يكتسب الدمج بين المجالين أهمية أكبر في إدارة القضايا الأمنية الحسّاسة التي ترتبط بالعلاقات مع الخارج، كالصراع مع وحدات حماية الشعب الكردية السورية، وملف تنظيم غولن.
كما أن هذا الدمج سيُساعد تركيا في تشكيل سياسةٍ خارجيةٍ نشطة في القضايا الجيوسياسية الشائكة مع الغرب على وجه الخصوص، كالصراع الجيوسياسي مع اليونان وقبرص الجنوبية في شرق البحر المتوسّط والشراكات العسكرية والأمنية التي أقامتها الولايات المتحدة وفرنسا مع اليونان، والتي تندرج في إطار التحدّيات الجيوسياسية التي تواجه تركيا مع الغرب. أما بالنسبة للعلاقة مع روسيا، فإن المواءمة بين متطلبات الأمن والدبلوماسية ستُساعد البلدين في جعل الشراكة الجيوسياسية بينهما في سورية وجنوب القوقاز والبحر الأسود فعّالة ومثمرة بقدر أكبر.
علاوة على ذلك، سيساعد الدمج بين مجالي الأمن والسياسة الخارجية تركيا في تشكيل سياسة خارجية نشطة أيضاً مع جوارها الإقليمي الجنوبي، لأن مجال الأمن يشغل الحيز الأكبر من علاقات تركيا مع محيطها الجنوبي، فإن المواءمة بين الأمن والدبلوماسية يُمكّن أنقرة من إعادة تشكيل سياستها الإقليمية بطريقةٍ توازن بين تحقيق الأهداف الأمنية ومتطلبات الدبلوماسية.
سينعكس هذا الدمج، بشكل أوضح، في السياسة الخارجية الجديدة التي ستنتهجها تركيا إزاء ملفّي سورية وليبيا، وبالنظر إلى الدور الفعّال الذي لعبه فيدان، عندما كان في جهاز الاستخبارات في الإشراف على قنوات التواصل الاستخباراتية والأمنية مع الحكومة السورية، فإن إدارته للمفاوضات معه في الفترة المقبلة سترتكز بشكل أساسي على مجال الأمن.
وكذلك الحال بالنسبة لليبيا، حيث سيُساعد الدمج بين الأمن والدبلوماسية أنقرة في صياغة سياسة جديدة تُراعي بين المصالح الأمنية والجيوسياسية وبين الدبلوماسية. سينعكس هذا الدمج بوضوح في العلاقة مع مصر، والتي سترتكز في عهدها الجديد على التعاون الثنائي في الملف الليبي وفي شرق البحر الأبيض المتوسط
ومن الملاحظ أيضاً في تشكيلة السلطة الجديدة في تركيا، الارتباط الوثيق الذي يسعى إليه أردوغان بين السياسات الاقتصادية والخارجية. بينما اقتصرت السياسة الخارجية خلال العقد الماضي على المواءمة بين التحدّيات الجيوسياسية والأمنية، فإن الاعتبارات الاقتصادية ستشغل في العهد الجديد لأردوغان حيّزاً أكبر في عملية تشكيل السياسة الخارجية.
يبدو ذلك مفهوماً بالنظر إلى أن أكبر التحديات التي تواجه تركيا في السنوات الخمس المقبلة هي الاقتصاد وإعادة إعمار المناطق المنكوبة التي دمّرها زلزال 6 فبراير، والتعامل مع هذه التحديات بشكل فعال تتطلب سياسة خارجية قادرة على الاستفادة من الميزات الاقتصادية للعلاقة مع مختلف الفاعلين الخارجيين من خلال جلب مزيد من الأموال الساخنة والاستثمارات الأجنبية.
في الأعوام الثلاثة الماضية، بدأت تركيا بالفعل عملية دمج بين احتياجاتها الاقتصادية وإعادة تشكيل علاقاتها مع روسيا ودول الخليج، لكن هذه العملية ساعدت في مواجهة مؤقتة للتحديات الاقتصادية وغير الكافية لتشكيل سياسات اقتصادية مستدامة. لذلك، من المرجّح أن تتوسع هذه العملية في الفترة المقبلة لتشمل الغرب.