الوقت- في حين أن تحذيرات المسؤولين والمفكرين الأمريكيين من المستقبل غير السار للصراعات والأزمات المتفشية في طبقات المجتمع المختلفة، قد اتخذت في السنوات الأخيرة اتجاهاً متزايداً، في غضون ذلك، أعلن عن نتائج استطلاعات الرأي التي تقول إن نصف الشعب الأمريكي يعتقد أن بلادهم تتجه نحو حرب أهلية، وهم على استعداد لحمل السلاح ضد حكومتهم، الأمر الذي جعل توقعات الانهيار الداخلي للإمبراطورية الأمريكية أقوى من أي وقت مضى.
في هذا المجال، لا يمكن للمرء ببساطة تجاهل ظاهرة الترامبية الناشئة، التي غذت الانقسامات العرقية بشكل أكبر. من ناحية أخرى، يحاول الديمقراطيون في الأشهر الأخيرة إخراج دونالد ترامب من دائرة السلطة السياسية إلى الأبد، من خلال التحقيق في ملفات ترامب وتورطه المحتمل في الهجمات على مبنى الكونغرس، لكن مواصفات ترامب يمكن أن تؤجج تصعيد العنف في هذا البلد.
ووفقًا لإحصاءات جديدة من إدارة أمن النقل الأمريكية، في بلد يزداد فيه حجم العنف المميت كل عام بسبب حرية حمل الأسلحة، وصلت كمية الأسلحة النارية المضبوطة إلى مستوى غير مسبوق في العقدين الماضيين.
وتعيش وزارة الدفاع الأمريكية من الآن أجواء الخوف الناجم من إمکانية حصول الفوضى داخل جيش البلاد بعد انتخابات 2024. ومع ذلك، فإن الوضع السياسي والاجتماعي في أمريكا وصل إلى مرحلة يخشى فيها مسؤولو هذا البلد بشدة من المستقبل، ووقوع انقلاب وحرب أهلية هي موضوعات قال الأمريكيون إنهم ينتظرونها.
من أجل دراسة التطورات الداخلية في الولايات المتحدة، نظَّم "الوقت" ندوةً مع الدكتور "فؤاد إيزدي" الخبير في الشؤون الأمريكية، والدكتور "إبراهيم متقي" الأستاذ بجامعة طهران والخبير في القضايا الدولية، للإجابة على أسئلة في هذا المجال.
الوقت: تسير التطورات الداخلية في الولايات المتحدة في اتجاهٍ جعل وسائل الإعلام الأمريكية في الأشهر الأخيرة تنشر العديد من الأخبار والتقارير حول احتمال اندلاع حرب أهلية. ما الذي جعل الشعب الأمريكي يرى سيناريو الحرب الأهلية بشكل أكثر وضوحاً؟ وفي الأساس، ما القصد عند الحديث عن الحرب الأهلية؟ هل سيحدث شيء مشابه لما حدث خلال حروب الانفصال في القرن التاسع عشر؟
الدکتور إيزدي: الحديث عن الحرب الأهلية في أمريكا يمكن أن يكون صحيحاً، وقد يكون خاطئاً أيضًا. لقد أثيرت قضية الحرب الأهلية في أمريكا في الماضي أيضًا، لكن هذا لم يحدث عملياً. إذا كان القصد من الحرب الأهلية هو أن ولايةً ما تريد الانفصال عن الأراضي الرئيسية للولايات المتحدة، مثل كاليفورنيا أو تكساس، وهذه القضية تؤدي إلى حرب أهلية، فهذا هو نفس الحدث الذي وقع في القرن التاسع عشر، لكن هذا لن يحدث أبداً. لأنه على الرغم من أن التيارات الانفصالية كانت موجودةً دائمًا في أمريكا، إلا أنها ليست تيارات مؤثرة للغاية، ولا ينص دستور الولايات المتحدة على أن الولايات يمكن أن تنفصل.
أي إن عليهم القتال ضد الحكومة المركزية من أجل الانفصال، وهذا ما حدث في الحروب الأهلية من 1860 إلى 1864، والتي قُتل خلالها ما يقرب من 700 ألف شخص، ومع ذلك لم تستطع الولايات الساعية الى الانفصال تحقيق رغبتها والانفصال عن الحكومة المركزية. ولكي تحدث حرب أهلية وفقًا لهذه المعايير، لا يوجد حتی الآن دليل لنفترض أن هناك حربًا أهليةً علی وشك الحدوث.
لكن إذا نظرنا إلى الحرب الأهلية على نحو انتشار استياء شعبي واسع النطاق داخل أمريكا، وقد يستخدم واحد بالمئة من الناس الأسلحة للتعبير عن استيائهم، فهذه القضية موجودة في أمريكا والآن تقع مثل هذه الحوادث. تمامًا كما هاجم أنصار دونالد ترامب مبنى الكونغرس ردًا على نتائج الانتخابات، وفي الأيام الأخيرة، هاجم شخص غاضب مبنى مكتب التحقيقات الفيدرالي في ولاية أوهايو وقُتل.
حالياً، وفقًا لاستطلاعات الرأي الأخيرة، يعتقد حوالي 12 بالمئة من الناس أن الوضع في أمريكا ليس جيدًا على الإطلاق، وتعتقد هذه النسبة المئوية من السكان أنه حتى انتخابات 2020 تم تزويرها، وأنه كان ينبغي على دونالد ترامب أن يصبح رئيسًا. كما أن 68٪ من الجمهوريين يعتقدون أن الانتخابات السابقة كانت مزورةً، و 28٪ من المستقلين قالوا إنها مزورة.
هؤلاء الـ 12٪، الذين يشكلون حوالي 20 مليون شخص من سكان الولايات المتحدة، غير راضين عن الوضع الحالي لهذا البلد، وقد قالوا إن استخدام السلاح لتغيير الوضع الحالي للبلد له ما يبرره، وهذا يدل على أنه حتى لو كان واحد بالمئة من هؤلاء السكان البالغ عددهم 20 مليون شخص، إذا كانوا يريدون حقًا استخدام الأسلحة لتحقيق أهدافهم، فإن الوضع الداخلي لأمريكا سينهار.
في أعمال الشغب الاجتماعية التي تحدث في البلدان، ليس من الضروري أن تكون غالبية المجتمع غير راضية عن الوضع الداخلي وتقوم بأعمال الشغب. بل لإحداث تمرد، هناك حاجة إلى أقلية فقط لدفع عملية الاحتجاجات وتحقيق الأهداف.
وإذا كان القصد من الحرب الأهلية هو الصراع المسلح، فينبغي القول إنه كلما ازداد الانسداد السياسي والصراعات السياسية في أمريكا، سيزداد مستوى الاستياء أيضًا. ففي بلد يبلغ تعداد سكانه 320 مليون نسمة، يوجد حوالي 400 مليون مسدس مسجّل في أيدي الناس، وفي بلد متوتر مثل الولايات المتحدة، هناك احتمال أن يزداد العنف.
بعد الهجوم على مكتب التحقيقات الفيدرالي في أوهايو، حذَّر مسؤولو مكتب التحقيقات الفدرالي من أي هجوم محتمل على مكاتب المكتب في جميع أنحاء الولايات المتحدة وزيادة مستوى الأمن. مستوى التوترات السياسية في أمريكا ليس خطيرًا بعد، ولم تصل مراجعة ملفات ترامب إلى مرحلة ضيقة، وجميع قضاياه قيد المراجعة حاليًا. والإجراء الذي يتمّ في الكونغرس، يحاول إثبات مدى تورط ترامب في أحداث عام 2020 والهجوم على مبنى الكونغرس.
لهذا السبب، لم تصل هذه القضايا إلى نتيجة نهائية بعد، وإذا أراد الديمقراطيون منع ترامب قانونياً من دخول الانتخابات الرئاسية عام 2024 وإزاحته من السلطة السياسية، فستتزايد المشاکل والانقسامات الاجتماعية داخل أمريكا.
الوقت: برأيكم ما هي العوامل التي زادت المخاوف من احتمال نشوب حرب أهلية في هذا البلد؟ وإلى أي مدى زادت أحداث الهجوم على مبنى الكونغرس في 6 يناير 2021 من هذه المخاوف الأمنية؟
الدکتور متقي: الحقيقة هي أن أمريكا لم يكن لديها أبدًا تماسك اجتماعي، ووفقًا لإميل دوركايم منظّر العلاقات الدولية،لم يكن لهذا البلد أبدًا تماسك عضوي. ويجب البحث عن سبب هذه القضية في التنوع العرقي والديني والثقافي والموجة الواسعة من المهاجرين. لذلك، لم يتم اعتبار أمريكا أبدًا على أنها أرض لها تشكيلات تاريخية.
إن فن الأمريكيين هو أنهم يريدون تشكيل الهوية الأمريكية بغض النظر عن التاريخ الأمريكي، لكن الحقيقة هي أن أمريكا كانت في حالة تفکك منذ عام 1991. لأنه حتى عام 1991 كان هناك تهديد يسمى الاتحاد السوفيتي والشيوعيون، وهذا التهديد تسبب في تماسك وتقارب داخل الولايات المتحدة، وبالتالي كان مجتمعها متوافقًا مع اللغة الإنجليزية والثقافة الأمريكية وهيكل القوة.
ولكن مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وعلى حد تعبير الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ريغان، إمبراطورية الشر، فقد الاتحاد السوفيتي وظيفته، ولم تعد هذه الإمبراطورية الشريرة التي بناها ريغان عاملاً من عوامل التضامن الاجتماعي في أمريكا.
لذلك، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، نشأت موجتان في أمريكا: موجة عالمية ناقشت نهاية عصر الأيديولوجيا ونهاية التاريخ، والتي قامت على أساس الانتصار الشامل لأمريكا ونظام الديمقراطية الليبرالية في العالم. وكانت الموجة الثانية هي التفکك في أمريكا، وقد شرح محللان هذه الموجة في أمريكا.
في كتاب "القوة والهوية"، شرح المؤلف الأمريكي مانويل كاستيلز التحديات الاجتماعية والثقافية والمتعلقة بالهوية التي تواجهها أمريكا، ويوضح كيف يتم إنشاء قوة الطرد المركزي. حتى كاستيلز قال إن الميليشيا الأمريكية هي قوة مناهضة للفيدرالية ومعادية للبنيوية. ولهذا السبب، في عام 1994، تم قصف المبنى الفيدرالي الأمريكي في ولاية كانساس، والذين فعلوا ذلك جادلوا بأن الولايات المتحدة لا تهتم بالمجتمع الأمريكي وتسعى فقط لأن تكون شرطة العالم.
هذه الموجة موجودة الآن، وكلما انعقد اجتماع مجموعة الدول الصناعية في أمريكا، كانت هناك موجات من الاحتجاج بشكل عام. ويمكن رؤية مثال واضح على ذلك في اجتماع سياتل، عاصمة ولاية كاليفورنيا، حيث توجد مجموعات هامشية تحاول السيطرة على السلطة.
وهناك نقاشات أخرى تظهر أن المجتمع الأمريكي أصبح منقسماً معيارياً، ولهذا السبب لا يعطون سلطةً جادةً للحكومة، ويشعرون أن الحكومة الأمريكية في أيدي عدد محدود من الناس. وهذه المفاهيم مكتوبة فيما يتعلق بالدولة العميقة والمنظمات والمؤسسات، وكل هذا في الأساس نقد للديمقراطية الأمريكية، ويجب أن نرى أن القوى الاجتماعية کيف تکون في هذه الأجواء.
وفي حين أن الشعب الأمريكي لديه مشكلة البطالة، فقد زاد التضخم بشكل كبير، وهم يشعرون أن الجو المثالي الذي كان في أذهانهم لن يتحقق، وقد خاب أملهم، ولهذا السبب فإن المجتمع الأمريكي اليوم مجتمع ممزق. وعندما يصبح المجتمع مفککاً، ويفقد التضامن المعياري والعلائقي والهيكلي مع الحكومة، فإنه يدخل في حالة أزمة.
من أشكال الأزمات في المجتمعات أزمة الشرعية، وأزمة الشرعية الموجودة في أمريكا سببها أزمة التوزيع. والمشاكل الاقتصادية في هذا البلد وارتفاع الأسعار التي نشأت، تركت أثراً كبيراً على تصور الأمريكيين، ونحن الآن نشهد مجتمعاً مقسَّماً.
هناك أيضًا نقاش مفاده بأن المجتمع الذي يعيش في حالة انقسامات لغوية وعرقية وثقافية واقتصادية، قد يدخل بطبيعة الحال في حرب أهلية. لكن اليوم الفجوات الموجودة في أمريكا، ويمكن أن نقول إن هذه الفجوات متقاطعة، أي إن هذا المجتمع يواجه هذه الفجوات، لكن هناك أيضًا دخل 5000 دولار والتأمينات الاجتماعية، وهذه ستصلح الفجوات. تقع الحرب الأهلية في البلاد عندما تتسع الانقسامات أولاً ويكون المجتمع في حالة سلبية. والنقطة الأخرى هي أن الفجوات المتقاطعة تصبح فجوات كثيفة، وفي هذه الحالة يمكن أن تكون الأزمة نوعًا من الصراع والمعركة المسلحة المنظمة.
الوقت: فيما يتعلق بالميليشيات والجماعات الهامشية الموجودة داخل الولايات المتحدة والتي تتزايد حاليًا، هل يمكن أن تكون هذه الميليشيات نقطة انطلاق أمريكا نحو صراعات اجتماعية عنيفة، وحتى ما يعتبره المجتمع الأمريكي حربًا أهليةً؟ ما هي طبيعة هذه الميليشيات من حيث الفكر والمنهج التنظيمي؟ وما مدى فاعلية دور هذه الجماعات في الحرب الأهلية في رأيكم؟
الدکتور إیزدي: كانت الجماعات المتشددة موجودة قبل تأسيس الولايات المتحدة، وحتى في دستور هذا البلد، تم ذكر هذه الجماعات. والتعديل الثاني للدستور هو مرجع المنظمات المؤيدة للسلاح، ولوبي السلاح في أمريكا يرى أن حمل السلاح في الولايات المتحدة له أساس قانوني بناءً على هذا التعديل. هذا التعديل يتحدث أيضاً عن الميليشيات، ويؤكد أن هذه الجماعات يجب أن تكون مسلحةً، وهذه القضية ليست بقضية جديدة.
لكن مع الأحداث التي وقعت في السنوات الأخيرة، ارتفع مستوى عدم الرضا، وهؤلاء الساخطون موجودون أيضاً داخل هذه الميليشيات، والفارق أنهم منظمون ويمارسون التدريبات العسکرية ولديهم قدرات. وبينما نتحرك نحو النزاعات والعنف، سيزداد هذا العنف أيضًا، وقد تنخرط القوات الموجودة في الميليشيات إما بشكل شخصي أو بطريقة منظمة. وهذه الفوضى والصراع ليس لهما أفق إيجابي، لأن المشاكل الموجودة في أمريكا لم تظهر بين عشية وضحاها، بل استغرق الأمر عمليةً حتى وصلت أمريكا إلى المرحلة الحالية.
إن أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل أمريكا مختلفةً اليوم عما كانت عليه قبل بضعة عقود، هو فشل مشروع العولمة. بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، شعر الأمريكيون أن منافسهم الرئيسي قد انسحب من الساحة الدولية، وشعروا أن الهيمنة التي كانوا قد خلقوها في بعض أجزاء العالم قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، يمکن مع انهيار الاتحاد السوفيتي ترسيخ هذه الهيمنة في جميع أنحاء العالم لأنه لم يكن هناك منافس. ومناقشات الكاتب والمفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما بعنوان "نهاية التاريخ"، ترتبط أيضًا بهذه المفاهيم.
كانت إحدى أدوات خلق الهيمنة لأمريكا هي التأثير الاقتصادي في أجزاء مختلفة من العالم، لتوسيع النظام الرأسمالي في العالم. وکانت العقلية هي أن الشركات متعددة الجنسيات ووجود المؤسسات الأمريكية في مناطق مختلفة، سيخلق تدريجياً نفوذاً سياسياً إلی جانب النفوذ الاقتصادي. لأن هؤلاء هم أصحاب رؤوس الأموال، وفي البلدان التي يتشابه أسلوبها في الديمقراطية مع السياسة الأمريكية، يأخذ السياسيون الأموال من الرأسماليين، ويمكن للسياسي الذي اجتذب المزيد من الأموال الفوز في الانتخابات. في أمريكا أيضًا، العملية هي نفسها، والمرشح الذي اجتذب معظم الأموال لديه فرصة بنسبة 94٪ للفوز، والشخص الذي جذب أموالًا أقل لديه فرصة 6٪.
كانت عقلية الأمريكيين هي أن هذه الشركات متعددة الجنسيات ستخلق نفس نمط الديمقراطية الأمريكية في البلدان الأخرى، عندما يتم تأسيسها في مكان آخر. والساسة في تلك البلدان يصبحون مدينين لأمريكا، والهيمنة الأمريكية تنشأ في المجال الاقتصادي إلی جانب المجال السياسي. ثم تتحول الهيمنة الاقتصادية والسياسية إلى هيمنة ثقافية وتتشكل الهيمنة العالمية، على حد تعبير جورج بوش الأب، الرئيس الأسبق للولايات المتحدة. كان هذا هو تفكير أمريكا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، لكن ما حدث عملياً هو أن أمريكا أصبحت الضحية الأولى لهذا المشروع الأمريكي.
هذه الشركات متعددة الجنسيات، ولأن هدفها الرئيسي كان تحقيق الأرباح، في البلدان المختلفة حيث لم تكن هناك قيود في هذا المجال، ولم يعد الاتحاد السوفيتي الذي تسبب في الاضطرابات موجودًا، ذهبت إلی عمال رخيصي الثمن، وبعد ذلك، في الأماكن التي وجدوا فيها عمالًا رخيصين، أغلقوا مصانعهم داخل الولايات المتحدة ونقلوها إلى دول أخرى مثل فيتنام أو بنغلاديش أو أماكن أخرى. وهذه الأحداث التي نراها الآن، حيث توجد موجة من عدم الرضا على نطاق واسع، تم إنشاؤها في إطار مشروع العولمة هذا.
لذلك، فإن الأشخاص الذين كانوا موظفين وعاملين في هذه المصانع، إما أصبحوا عاطلين عن العمل، أو إذا وجدوا عملًا، فقد ذهبوا إلى الصناعات الخدمية حيث كانت الرواتب أقل.
وإذا نظرنا إلى إحصائيات نمو حقوق الشعب الأمريكي، فعادةً ما تكون سلبيةً، وأدت هذه الضغوط الاقتصادية إلى تولي شخص اسمه دونالد ترامب منصب رئاسة الجمهورية، وقد تظاهر بعض أصحاب شعار القومية الاقتصادية بأن مشاكل الناس سببها سياسيون، وأن السياسيين ينتمون لشركات فاسدة كبرى، ومن شعارات ترامب أنه قال إنه يريد تجفيف دوامة الفساد في واشنطن، رغم أنه لم ينجح في هذا الصدد، لكنه فاز بالرئاسة بهذا الشعار.
قال ترامب إنني غني ولا أبحث عن أموال من الرأسماليين مثل السياسيين الآخرين، وأستطيع حل مشكلة الفساد. وأحد الأسباب التي أدت إلى فوز ترامب في عام 2016 ولا يزال يحظى بشعبية في المجتمع الأمريكي، هو أن مواقفه تنال إعجاب وقبول جزء من الناس، ويشعر أنه بهذه التصريحات يمكنه کسب الرأي العام والفوز في الانتخابات المقبلة.
الوقت: هل تصوركم للفئات الهامشية يعني أن النظام السياسي والاقتصادي الأمريكي هو الذي تسبب في تشكيل هذه المجموعات؟
الدکتور إيزدي: رأيي يتعدى الفئات الهامشية وهذه المجموعات كانت موجودةً على الدوام، ولأنها أصبحت أكثر نشاطاً يتشكل عدم الرضا في عموم المجتمع الأمريكي. تظهر استطلاعات الرأي المختلفة أن النظرة الإيجابية لمستقبل أمريكا تتراوح بين 10 و 15 بالمئة، ويتخيل معظم الناس مستقبلًا مظلمًا لبلدهم لأنهم يقارنون الوضع الحالي بالماضي، والنتيجة هي زيادة في عدم الرضا.
كان أحد أسباب دخول أمريكا في هذا الوضع الحالي، هو أنها وقعت في الحفرة التي حفرتها للدول الأخرى لزيادة هيمنتها. فالنظام الذي صمم هذه الحفرة کانت نفسها أول دولة تسقط في هذه الحفرة. ولذلك، لا يمكن تعديل هذا الهيكل بعد الآن.
الوقت: في أحداث عام 2020، رأينا أن دور هذه الميليشيات يبدو وكأنه خارج العملية الانتخابية، وأنها خرجت من سلسلة من الصراعات الاجتماعية المتجذرة وغير المحلولة. فهل تمتلك هذه الميليشيات القدرة على قيادة المجتمع نحو حرب أهلية في المواقف الحرجة؟
الدکتور إيزدي: يجب أن يُنظر إلى أمريكا كما هي. هناك مشاكل جذرية في أمريكا تتجاوز الميليشيات، وإذا کانت هذه الجماعات قادرة علی شن حرب أهلية، لكان هناك عشرات الحروب في هذا البلد الآن. الميليشيات هي جزء من الأشخاص الذين لديهم تدريب وتنظيم وانضباط في استخدام الأسلحة، وعندما تصبح التحديات في أمريكا أكثر انتشارًا، في حينها سيكون للأشخاص الذين لديهم تدريب وتنظيم عسكري دور أكثر فاعليةً في هذه النزاعات.
الوقت: في السنوات الأخيرة، تراجعت قوة أمريكا في الأبعاد الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية أمام منافسين مثل روسيا والصين، ولهذا السبب أشار العديد من الخبراء داخل وخارج أمريكا إلى هذه القضية، وتحدثوا عن تراجع القوة والهيمنة الأمريكية العالمية. حتى ترامب يتحدث دائمًا عن تراجع القوة الأمريكية. فإلى أي مدى أثَّر ضعف أمريكا هذا في تشكيل وتصعيد الصراعات الاجتماعية في هذا البلد؟
الدکتور متقي: الحقيقة هي أن أمريكا هي الآن أقوى قوة في العالم من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن هذا البلد آخذ في الانحدار. هذا التراجع هو مثل الخسارة التي يعاني منها الإنسان، أي لها البنية، لكنها تضعف من حين لآخر، وتنخفض قوتها النسبية، وتقل الإرادة لإيجاد دورها في البيئة الإقليمية. کما أن تحرکها العملياتي لا يؤتي ثماره، وتزيد تكاليفها الأمنية كثيرًا.
كتب إسماعيل حسين زاده، وهو كاتب إيراني يعيش في أمريكا، مؤخرًا كتابًا بعنوان "علم اجتماع العسكرة". في هذا الكتاب، يعتقد أن تكاليف الهيكل العسكري الأمريكي وهمية للغاية، وأن العديد من المشتريات التي طلبها الجيش الأمريكي ليست مشتريات حقيقية للمنظمة، وهي غير أخلاقية ويريدون جني الريع. أي إنهم يطلبون البضائع المخصصة للخدمات اللوجستية الأمريكية، وسعر الشراء يفوق السعر الفعلي بعدة مرات.
النقطة المهمة هي أن التصنيع المحلي في أمريكا يتراجع ببطء. تم ذكر علامات هذا التدهور في كتاب غراهام أليسون بعنوان "الحرب الحتمية"، أي فخ ثوقيديدس، ويظهر في هذا الكتاب كيف تمكن الصينيون من زيادة قوتهم. وهذا يعني أن الهيكل الداخلي لأمريكا صاخب ولكنه فارغ، ومستقبل بلد في هذه الحالة في هالة من الغموض.
يقول غراهام أليسون إن الحرب بين الصين والولايات المتحدة أمر لا مفر منه، ولهذا السبب، بعد زيارة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي، إلى تايوان، كانت هناك فرصة للأمريكيين لإبداء المزيد من المرونة وعدم إظهار إيماءة عدوانية. لقد تبنت أمريكا سياسةً عدوانيةً ضد روسيا في أزمة أوكرانيا، وحاولت ضم فنلندا والسويد إلى الناتو. لكن فيما يتعلق بالصين، فقد أزالوا قضية حكومتين من جدول الأعمال، وحجتهم هي أن حل النزاعات الإقليمية مرتبط بالدول نفسها. وتظهر هذه القضية أن الأمريكيين ليس لديهم الإرادة اللازمة لإيجاد دور في السياسة العالمية.
قال الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما مرارًا وتكرارًا إن الرئيس السوري بشار الأسد يجب أن يتنحى، لكن بشار الأسد ظل في السلطة. وهذا يظهر أنه عندما لا تستطيع قوة عظمى إدارة سياساتها الإقليمية، فإنها تواجه تحديًا.
والنقطة التالية التي يجب أخذها في الاعتبار، هي قضية التكاليف الأمنية العالية لأمريكا. تكلفة الأمن الذي خلقته إيران في المنطقة كلفت أمريكا حوالي 200 مليون دولار، ووفَّر اللواء قاسم سليماني أمن إيران بمساعدة قوات المقاومة بثمن رخيص، بينما يتم تحقيق الأمن الأجوف لأمريكا والسعودية والإمارات بأثمان مرتفعة للغاية. ويمكن رؤية مثال علی التكاليف الأمنية لأمريكا في أفغانستان، حيث كانوا موجودين في هذا البلد لمدة عشرين عامًا وأنفقوا الكثير من الأموال، وفي النهاية لم يتمكنوا من إجراء انسحاب مناسب.
في المجال العسكري، هناك نقاش ذو طبيعة تكتيكية، أي أن الأمريكيين اعتقدوا أن الهروب هو نفس التراجع، لكنه ليس كذلك. من وجهة النظر العسكرية، الانسحاب هو تكتيك ويتطلب التخطيط والتنظيم، والقدرة على تحريك القوات. الهروب حالة تفقد فيها دولة تنظيمها، وانسحاب أمريكا من أفغانستان يشبه الهروب، وهذا الموضوع يقضي على الهيمنة الأمريكية. يتمتع الأمريكيون اليوم بخاصية أنه إذا اتخذوا إجراءً مضادًا محسوبًا وفعالًا، في هذه الحالة، سيكونون في حالة مرنة، وإذا کنتم في حالة تسوية مرنة، فسوف يصبحون أكثر عدوانيةً.
والسبب في انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي، هو أن مسؤولي الحكومة الإيرانية استخدموا سياسة الاسترضاء أمام واشنطن. لذلك، كلما زاد السلوك القائم علی الاسترضاء، يصبح الطرف الآخر أكثر عدوانيةً. أمريكا ليست في وضع يمكنها من وضع خطة استراتيجية الآن، وثانيًا أن تصميمها الاستراتيجي رخيص ومعقول التكلفة، وثالثاً يجب أن يصل تصميمها الاستراتيجي إلى نتيجة العملية، وبالتالي لا جدوى من إنفاق الأموال على شيء لا يصل إلى النتيجة. أمريكا اليوم محاصرة بسبب اقتصادها الكبير وقواتها العسكرية الهائلة.
إن الحفاظ على 2.8 مليون فرد من العسكريين الأمريكيين وتنظيمهم أمر مكلف، ومن أجل إدارتهم، يجب أن تخلق الحرب من أجل النجاح. وهكذا، فإن انحدار أمريكا يقلل من مصداقيتها وشرعيتها. وإذا تضاءلت شرعية ومصداقية هذا البلد، فإن المناخ الاجتماعي سيصبح نابذاً، وبالتالي فإن المجتمع الأمريكي هو مجتمع مفکك، لأن حكومته مفکكة.
الوقت: من القضايا المتعلقة بأزمة الشرعية في أمريكا، الانتقاد المتزايد لنظام الحزبين. مؤخراً، تأسس حزب اسمه "فورورد"(إلی الأمام)، مؤسسوها منشقون عن الحزبين الجمهوري والديموقراطي، ومن خلال انتقاد نظام الحزبين، وعدوا بإجراء تغييرات جوهرية، مثل تغيير النظام الانتخابي، وقالوا إنه إذا لم يتغير هذا النظام، فلن تشهد أمريكا الذكرى الـ 300 لاستقلالها. برأيكم ما مدى مساهمة نظام الحزبين في رؤية المجتمع الأمريكي المتشائمة تجاه المستقبل؟
الدکتور إيزدي: تبدو ديكتاتورية الحزبين وكأنها مصطلح أفضل لأمريكا. هناك حوالي 15 حزباً ناشطاً في أمريكا، والحزب الجديد تم تأسيسه برئاسة أندرو يونغ، وهو ديمقراطي، وكان أحد مرشحي هذا الحزب في انتخابات 2020، واحتج الديموقراطيون على أن هؤلاء الناس لا يمكنهم في الواقع لعب دور نشط في الهيكل الأمريكي. لذلك، فإن النظام الانتخابي الأمريكي هو ديكتاتورية من حزبين، ودستور هذا البلد مكتوب بحيث أنه إذا أراد طرف ثالث أن يلعب دورًا، فيستحيل عليه ذلك عمليًا.
على سبيل المثال، كان للحزب الأخضر فرع في الولايات المتحدة لسنوات عديدة وكان يقوم بالدعاية، لكن لا يمكنه القيام بدور نشط في الحملة الانتخابية، وليس لديه القدرة على إرسال ممثل إلى الكونغرس أو مرشحه للفوز بالانتخابات الرئاسية؛ أي إن القانون لا يسمح لهم بذلك.
ومن هذه العوائق نظام التصويت الانتخابي، حيث أنه في كل ولاية ينتخب الحزب الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات مرشح ذلك الحزب، وكان مرشحو الحزبين القويين يفوزون دائمًا بالأصوات الانتخابية. وإذا كان المرشح الانتخابي من الحزب الديمقراطي أو الجمهوري، فإنه يذهب إلى المرحلة النهائية من خلال الانتخابات داخل الحزب. أما إذا كان هناك مرشح من حزب ثالث فلن يحصل على شيء، ويقولون إنه يجب أن يجمع التوقيعات ليخوض الانتخابات. وبالتالي، فإن القوانين في الولايات المتحدة لا تسمح لحزب ثالث بالنجاح في الانتخابات. والأشخاص الذين يؤسسون حزبًا جديدًا يعرفون أنهم لا يستطيعون فعل أي شيء، وهذه مجرد قضية دعائية، وإذا أسّس الديمقراطيين حزباً جديداً، فهو يعمل في ظل الحزب الديمقراطي ولا يمكن أن يكون له وجهة نظر نقدية.
الوقت: قانون حرية حمل السلاح في أمريكا جعل الناس أكثر استعدادًا لشراء الأسلحة، وهناك حوالي 400 مليون قطعة سلاح في أيدي الناس. ووفقًا للإحصاءات، فقد ازداد حجم أعمال العنف والوفيات التي تسببها الأسلحة النارية، بل ويقال إنه خلال وباء كورونا زادت مشتريات الأسلحة بنسبة 43 في المئة. فإلى أي مدى كان قانون حرية حمل السلاح فعالاً في زيادة المخاوف بشأن اندلاع حرب أهلية في الولايات المتحدة؟
الدکتور متقي: في رأيي، أولئك الذين يحملون أسلحةً ولديهم ترخيص وتسجيل للاحتفاظ بها هم من البيض. كانت إحدى خطط ترامب أن تستمر شرعية حمل السلاح، رغم اعتقاده بضرورة السيطرة على هذه القضية، لأن هذه القضية موجودة في الثقافة الاجتماعية والاستراتيجية الأمريكية.
لم يكن الأمريكيون من دون أسلحة منذ القرن السابع عشر، وهناك رؤية خاصة في التفكير الأمريكي، وهي مسألة مساعدة الذات، وثمة أراض وحقول شاسعة والعديد من التهديدات، كل منها يمكن أن يشكل تحديًا خاصًا لهذا البلد، ويجبره على امتلاك سکانه للأسلحة. لذلك، فالتسلح في المجتمع الأمريكي لا يسبب حربًا أهلية، بل التسليح في هذا المجتمع هو أحد العوامل التي يمكن أن تمنع بعض الاحتجاجات.
يفكر العديد من الأمريكيين في استخدام القوة لتحقيق الاستقرار في الهيكل، ولا يمكن لأي رئيس أن يسن قانونًا يؤدي إلى تقييد حرية شراء وحمل الأسلحة. والنقطة الأخرى هي أن الاستمرار في حمل السلاح ليس عاملاً يزيد من عدم الاستقرار والعنف، وبالمناسبة فهو يخلق دافعًا لدى بعض الجماعات للتسلح والتجهيز ومواجهة الجماعات المتنافسة. إن أهم مشكلة تواجهها أمريكا هي نوع من التآكل الديموغرافي(التركيبة السكانية)، والذي بات مترابطاً مع هذا البلد، وهذا موضوع مهم للغاية.