الوقت- "حقيقة جرائم فرنسا الاستعمارية التي لا تغتفر، أهم من اعتذار محتمل من باريس"، هذا ما قاله نجل موريس أودان، الناشط المناهض للاستعمار الذي اغتيل على تحت التعذيب على يد القوات الفرنسيّة أثناء معركة الجزائر عام 1957، حيث نالت الجزائر استقلالها عن المستعمر الفرنسيّ عام 1962، بعد حرب طاحنة دامت 7 سنوات، وأنهت ما يزيد على 132 عاماً من الاستعمار الفرنسيّ، الذي انتقده في وقت سابق الرئيس الفرنسيّ، "إيمانويل ماكرون"، ليعود ويزعم بعدها أنّ الرغبة في مصالحة الذاكرة بين الفرنسيين والجزائريين "مشتركة بشكل كبير" على الرغم من "بعض الرفض" في الجزائر، بعد ما عانته البلاد من إجرام الفرنسيين.
تأتي تصريحات بيار أودان، عالم الرياضيات وهو تخصص والده، عقب حصوله على جواز سفره الجزائريّ بعد طول انتظار وبعد أن تقاعد من عمله، وبفضل ذلك بدأ جولة في بلاده منذ نهاية أيار/مايو المنصرم، حيث حضر الأحد الفائت تدشين تمثال لوالده تخليدا لذكراه في الساحة التي تحمل اسمه في قلب العاصمة، والتي كانت القلب النابض للحراك، الحركة الاحتجاجية المؤيدة للديموقراطيّة التي أجبرت الرئيس الجزائريّ السابق عبد العزيز بوتفليقة على الاستقالة.
وقد سبق واعترفت فرنسا على لسان الرئيس الفرنسي ماكرون في ايلول/سبتمبر 2018، بأن عالم الرياضيات الشيوعيّ الشاب موريس أودان قد تعرض للتعذيب حتى الموت أو تم تعذيبه ثم أعدمه الجيش الفرنسي عام 1957. كما طلب "الاعتذار" من أرملته جوزيت أودان، وبالنسبة الى ابنه بيار أودان، فإن هذا الاعتراف طال انتظاره، فقد كان عمره شهرًا ونصف الشهر فقط عندما أُعدم والده، وهو يبلغ من العمر اليوم 65 عاماً، وعندما جاء الرئيس إلى منزل والدته، كان عمره 61 عاماً وكان قد تقاعد من عمله، أيّ جريمة الاغتيال حدثت عندما كان رضيعا، وعندما وافقت فرنسا على الاعتراف بما فعلته بوالده، كان متقاعداً، "لقد مضى عمر بأكمله"، يقول الأخير.
وعلى الرغم من اعتراف باريس إضافة إلى لفتات رمزية اخرى تتعلّق بالذاكرة للرئيس ماكرون، تستبعد فرنسا أي "توبة" أو "اعتذار" بعد 60 عاماً من نهاية حرب استقلال الجزائر (1954-1962)، في ظل رفض كبير داخل الجزائر لمصالحة الذاكرة التي تعج بالجرائم الفرنسيّة، حيث عانت البلاد من جرائم الفرنسيّين وربما ما زالت، فمن منهم يستطيع أن ينسى جريمتي تلغيم الحدود، وإجراء التجارب النوويّة في الصحراء الجزائريّة، اللتين تحصدان أرواح الأبرياء إلى يومنا هذا.
"هناك بعض الجرائم والأفعال السيئة التي ارتكبها الاستعمار الفرنسيّ ضد الجزائر والجزائريين، والمهم هو قول الحقيقة، لا يهمني الأمر ولا اتحمل أي مسؤولية، فقد طلبت الاعتذار، لا يمكن الاعتذار فهذه جرائم لا تُغتفر"، وبالفعل من الصعب جداً أنّ تمحى جرائم المستعمر الفرنسي الوحشيّة بهذه السهولة التي يتعاطى معها الفرنسيون، على الرغم من وصف ماكرون لتلك الفترة المريرة أي الاستعمار الفرنسيّ للجزائر بـ "الجريمة ضد الإنسانيّة"، وذلك في حملته الانتخابية، لكن تبقى الحسابات السياسيّة تدخل في أبسط التفاصيل، ما يطرح علامات استفهام كثيرة أولها هل ستُقر فرنسا بجرائم احتلالها في الجزائر؟، مع وجود طبقة سياسيّة جديدة في البلاد، تزعم أنّها ترغب في أن تتخلص من أعباء الإرث التاريخي المُعيب.
ومن الجدير بالذكر أنّ بيار أودان لم يخف سعادته بالعودة إلى مسقط رأسه حيث يزور الجزائر لأول مرة بجواز سفره الجزائري، وقال "عندما أكون في الجزائر العاصمة، أجمل مدينة في العالم، أشعر بأنني بحالة جيدة، أشعر بأنني في منزلي"، وأضاف: "لقد انتظرت طويلاً بما يكفي للحصول على جواز سفري الجزائريّ، شعرت حقًا بالحاجة إلى إثبات جنسيتيّ فقط بعد تصريح الرئيس ماكرون"، معبراً عن أمله في أن تساعده جنسيته الجزائرية في البحث عن رفات والده الذي لم يعثر عليها أبداً.
"قبل أيام من وفاة والدتي، وعدتها بمواصلة البحث عن رفات والدي، وإنّ حقيقة أنّني جزائري ومخاطبة سلطات بلدي بجواز سفري هذا، هو أمر مهم، فبمجرد وجود شك، أعتقد أن الأمر يستحق الذهاب والبحث في الأماكن المختلفة التي أشار إليها شهود مختلفون، إنها بداية وعلى الحكومات أن تتعاون للحصول على معلومات عن مصير الجزائريين الذين اختفوا خلال معركة الجزائر"، هذا ما أشار إليه ابن المناضل من أجل تحرير الجزائر من الاحتلال الفرنسي، من خلال انتمائه للحزب الشيوعي الجزائري وهو الأمر الذي أدخله في صراع مع السلطات الاستعمارية التي اعتقلته قبل أن تعذبه وتقتله، والذي تحول إلى رمز للمجاهدين والمناضلين في قضية التحرر الجزائرية وخاصة قضية الذين تم تعذيبهم للحصول على معلومات أو لدفعهم لنكران القضية الجزائرية و الانضمام عنوة للاستعمار الفرنسيّ.
ولا يخفى على أحد أنّ الرئيس ماكرون اعترف عام 2018 أيضا، بمسؤولية القوات الفرنسيّة عن مقتل المحامي والمناضل الوطني علي بومنجل خلال معركة الجزائر، كما أقيم نصب تذكاري للأمير عبد القادر البطل الوطني الجزائري الذي ناضل ضد المستعمرين الفرنسيين، إضافة إلى استعادة الجزائر رفات 24 مقاتلاً من فرنسا، كانوا قد ضحوا في مقاومة قوات الاحتلال الفرنسيّ في القرن التاسع عشر لذلك أعدموا من قبل قوات الاستعمار ونُكلّ بجثثهم، ومن ثم ترحيل رؤوسهم إلى فرنسا، بحجة اجراء دراسات "علم الإنسان" أو ما يسمى "الأنثروبولوجية"، وكانت جماجم بعضهم معروضة في متحف في العاصمة الفرنسيّة باريس، حيث كشف الرئيس الجزائريّ، "عبد المجيد تبون" حينها، عن هذه الخطوة ضمن حفل عسكريّ ضخم.
وفي كانون الأول/ ديسمبر المنصرم، فتحت فرنسا أرشيفها الخاص بالحرب على الجزائر من أجل ما قالت إنّها "مواجهة الحقيقة"، فيما يبقى ملف الذاكرة الدمويّة مصدر توتر دائم بين فرنسا والجزائر التي تستعد للاحتفال في الخامس من تموز/يوليو بالذكرى الستين لاستقلالها بعد 132 عاما من الاستعمار الفرنسيّ، في ظل تصميم جزائريّ على ما يبدو بأنّ بلادهم لن تتراجع أبداً عن مطالبتها باسترجاع أرشيفها المتواجد في فرنسا، وحديث بعض المسؤولين في البلاد أنّ باريس "لا تملك إرادة حقيقية لطي هذا الملف نهائياً".
نتيجة لكل ما ذُكر، إنّ الرغبة في مصالحة الذاكرة الوديّة للفرنسيين في الجزائر، على الرغم من "بعض الرفض"، لن تتم إلا في حال كانت فرنسا جادة بالفعل في طي تاريخها الأسواد وجرائمها الكثيرة إبان فترة استعمارها، وخاصة أنّ بعض الجزائريين ينظرون إلى فرنسا باعتبارها "عدواً تقليديّاً"، بعد ما عانته البلاد من إجرام المستعمر الفرنسيّ، وإنّ تصرفات فرنسا لا توحي أبداً بأنّها ترغب في عودة المياه إلى مجاريها بين البلدين، وعلى كل المستويات، لكن بالمقابل استطاعت كل من ألمانيا وفرنسا بناء علاقات وديّة بعد تجريم النازية، وعلى ما يبدو فإنّ العلاقة بين الجزائر وفرنسا ستتجه نحو هذه التجربة في حال سُنّ قانون التجريم لفترة الاستعمار، لكن نجاح فرنسا بمساعدة ماكرون في محاولات طي تاريخها الإجراميّ البشع مع الجزائر، نجاحٌ مرهون بجدية فرنسا ومدى وثوق الجزائريين بباريس وحكومتها، عقب الجرائم البشعة التي ارتكبها أسلافهم بحق هذا البلد و31 بلداً آخر، في الفترة الزمنية الممتدة بين عامي 1534 و 1980.