الوقت- هناك مصير غير واضح للأكراد على المستوى السياسي وعلى مستوى بناء كيان مستقل خاص بهم في سوريا على غرار العراق، خاصة وأن المعادلات الدولية والإقليمية لا تسمح بذلك، والأهم هو الإلتفاف الأمريكي على الأكراد وطعنهم في الظهر مرات عديدة حتى أصبح الوثوق بهم أمر مستحيل ومع ذلك لا يزال الأكراد يضعون ثقتهم بالأمريكي ظاهريا لأن الولايات المتحدة الأمريكية هي الوحيدة التي تتقاطع مصالحها مع مصالح الاكراد في المنطقة.
مؤخرا نشرت "الغارديان" تقريراً جريئاً عن قيام "قوات سوريا الديمقراطية- قسد"، بإطلاق سراح عناصر بتنظيم "داعش" من سجون شمال وشرق سوريا مقابل مبالغ مالية.
"قسد" نفت هذا الأمر وقالت في بيان نشر عبر موقعها الإلكتروني: "نشرت صحيفة الغارديان البريطانية تقريرا كاذبا مرفقا بوثيقة تدعي إطلاق سراح معتقلين لداعش في سجون شمال وشرق سوريا مقابل مبلغ مادي، وعلى الرغم من نفينا المطلق لتلك التقارير وتأكيدنا مسبقا للصحفية التي أعدت التقرير بأن الوثيقة مزورة، إلا أنها وقعت في فخ التزوير والشهادات الكاذبة وأصرت على نشر التقرير مع الوثيقة المزورة".
وقالت "الغارديان" في تقرير نشرته اليوم الاثنين، إن "قوات سوريا الديمقراطية المسؤولة عن سجون في شمال شرق سوريا التي تأوي نحو 10 آلاف رجل على صلة بداعش، أفرجت عن سجناء مقابل أموال بموجب مخطط مصالحة".
وتظهر نسخة من استمارة الإفراج أن السوريين المسجونين دون محاكمة في السجون بإمكانهم دفع غرامة تصل إلى 8 آلاف دولار، لكي يتم إطلاق سراحهم.
وكجزء من الصفقة، يوقع السجناء المفرج عنهم بيانا يتعهدون فيه بعدم الانضمام إلى أي تنظيمات مسلحة وترك أجزاء من شمال وشرق سوريا تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد.
الحرية مقابل المال
وعند إطلاق سراحهما، تمّ لم شمل الرجلين اللذين التقتهما صحيفة "الغارديان"، وكلاهما قاتل في صفوف تنظيم الدولة إلى غاية انهيار ما يسمى بالخلافة في مارس-آذار عام 2019، بزوجتيهما وأطفالهما، الذين تم إطلاق سراحهم أيضا من معتقل الهول في إطار صفقة.
وسافرت العائلتان إلى محافظة إدلب، التي تخضع لسيطرة فصائل إسلامية متنافسة، وعبرتا الحدود إلى تركيا. الرجلان يعيشان الآن في تركيا وتحت أنظار سلطات البلد الذي اتخذاه كوطن جديد. أحدهما أكد أنه لم يقتنع أبدا بأيديولوجية داعش، والآخر قال إن انجذابه إلى الجماعة في البداية كان بدافع ديني لكنه لم يدرك أن التنظيم المتطرف سينمو ليصبح أكثر عنفا.
لا يُعرف عدد الرجال الذين تمكنوا من شراء حريتهم بهذه الطريقة، لكن الرجلين المفرج عنهما قالا إنهما يعرفان 10 أشخاص على الأقل غادرا سجن الحسكة منذ فترة بنفس الطريقة منذ تنفيذ مخطط المصالحة في العام 2019.
الأكراد والقلق المصيري
يعيش الأكراد قلقاً مصيرياً يتعلق بهويتهم ومكانتهم ومستقبلهم المحفوف بالمخاطر، فثمة قناعة عامة بأن أكراد سوريا كانوا أكثر المستفيدين من الأزمة السورية، إذ أتاحت لهم بلورة كيانية سياسية، وجعلت منهم قوة سياسية وعسكرية وازنة في الساحة السورية، مكّنتهم من طرح تطلعاتهم ومطالبهم القومية بقوة.
ورغم كل ما سبق، فإنهم يعيشون في قلق دائم إزاء المصير الذي ينتظرهم، فكل ما حققوه من انتصارات ميدانية ضد تنظيم "داعش" الإرهابي على الأرض لم يجد إلى اليوم طريقه إلى طاولة المفاوضات، سواء في اجتماعات جينيف أو آستانة أو حتى اللجنة الدستورية.
ولعل عدم نجاح أكراد سوريا في حجز مقعد لهم في قاعات التفاوض يطرح سؤالا جوهريا، وهو هل المشكلة تكمن في الأكراد وخياراتهم السياسية أم في طبيعة السياسات الدولية التي تجعل منهم كبش فداء عند المصالح والتسويات؟
في الواقع، محاولة الإجابة عن السؤال أعلاه تضعنا أمام دور المصالح في السياسة الدولية والإقليمية، إذ يبرز هذا العامل كفاعل أساسي في رسم الأقدار والمصائر في الشرق الأوسط، وهنا تتوجه الأنظار إلى السياسة الأمريكية، التي تحالفت مع أكراد سوريا ضد تنظيم "داعش" الإرهابي، وبفضل ذلك تم إلحاق الهزيمة العسكرية بـ"داعش" بعد التضحيات الكبيرة، التي قدمتها قوات سوريا الديمقراطية "قسد".
القلق الكردي من التحول في المواقف الدولية، وتحديدا الأمريكية، بات واضحا مع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والاستعدادات الجارية للانسحاب من العراق في إطار استراتيجية أمريكية، يؤكد مراقبون ومحللون سياسيون أنها ستشمل سوريا في المرحلة المقبلة، وهو ما سيشكل ضربة كبيرة لأكراد سوريا، خاصة إذا ما علمنا أن واشنطن تكاد تكون الحليفة الوحيدة لهم وسط أعداء كثر، لا سيما تركيا التي لا تتوقف عن التهديد بعمليات عسكرية جديدة ضد مناطق الأكراد، وسط قصف متقطع لمقارهم وقياداتهم الميدانية، حيث تزداد خطورة تركيا، التي تحاول القيام بدور الشرطي الإقليمي في مناطق شمال سوريا وشرقها، وسط أجندة واضحة تقوم على التتريك والاحتلال، من خلال إقامة بنية تحتية في هذه المناطق مرتبطة بالداخل التركي.
هناك خلاف مع الأكراد أيضا من قبل دمشق وأنقرة وبغداد ودول أخرى طالما أن الأكراد يحلمون بإقامة دولة قومية كردية، وستكون هذه الدول المتضرر الأكبر منها، وهكذا تبدو الجغرافيا كقدر يحكم مصير أكراد على مذبح المصالح الإقليمية والدولية.
هذه القاعدة من العلاقات الدولية في التعامل مع القضية الكردية تطرح أسئلة كثيرة عن مسؤولية الحركة الكردية، وعن خياراتها السياسية، والأساليب المنتهجة في نيل المطالب والتطلعات القومية، فمثلا كيف يمكن للأكراد طرح مطالبهم القومية دون الصدام مع أنظمة الدول التي تحكمهم؟ وكيف لهم التوفيق بين هذه المطالب وبين قضية السيادة الوطنية لهذه الدول؟ والأهم، لماذا لا نجد مرجعية كردية واحدة في طرح هذه المطالب وانتهاج خطاب سياسي يعكس عدالة مطالبهم بعيدا عن اتهامات الانفصال والتقسيم والتآمر مع الخارج؟
دون شك، الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها تبدو مُلحة بعد أن وصلت القضية الكردية إلى مرحلة حساسة، والتحدي هنا يكمن في كيفية جعل الحراك الكردي الجاري جزءا من الحراك الهادف إلى تحقيق الحرية والديمقراطية والتنمية في المنطقة، لا التخندق في الأيديولوجيا القومية الضيقة، التي قد تفتح الباب أمام مزيد من الصدام والعداء القومي.
في الواقع، دون سياسة كردية واقعية تبصر حقيقة تعقيدات العلاقات الدولية والمصالح، التي تتحكم بها، فإن دورة الأقدار ستبقى تتحكم بمصير الأكراد، وسيبقى مسار التعامل مع الأكراد وقضيتهم يأخذ منحى أمنيا من جهة، ومن جهة ثانية يخضع لحسابات المصالح الإقليمية والدولية، التي كثيرا ما يكون الأكراد ضحيتها الأولى.
ولعل ما يجري اليوم على جبهة العلاقات التركية-الأمريكية بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ومحاولة تركيا حجز موطئ قدم لها هناك في إطار دور وظيفي يخدم الاستراتيجية الأمريكية في مرحلة ما بعد الانسحاب من أفغانستان والمنطقة، يشكل مؤشرا قويا إلى استمرار إخضاع مصير الأكراد في سوريا وعموم المنطقة للحسابات الإقليمية والدولية.