الوقت- انقلاب جديد يحدث في بلد الانقلابات الواقع في القرن الأفريقي. وقبل عدة سنوات أطيح بالديكتاتور السوداني السابق "عمر البشير" في انقلاب عسكري عام 2019، وتشكلت حكومة جديدة بمزيج مشترك من الجيش وجماعات المجتمع المدني والأحزاب. وكان من المقرر أن تظل الحكومة الانتقالية في السلطة حتى إجراء انتخابات ديمقراطية في عام 2023. وفي الآونة الأخيرة، كان هناك خلافات وتنافسات متزايدة بين الجانبين المدني والعسكري في هذا البلد الافريقي. ولقد دعا القادة العسكريون في حكومة "عبد الله حمدوك" الانتقالية الشركاء المدنيين في الحكومة، لا سيما تحالف الحرية والتغيير، إلى إجراء تغييرات في مجلس الوزراء، لكن هذا الطلب قوبل بالرفض من قبل القادة المدنيين باعتباره خطوة للاستيلاء على السلطة. ومن ناحية أخرى، ألقى "حمدوك" وشخصيات مدنية باللوم على استمرار وجود الموالين لـ"البشير" في الشؤون الحكومية (الجيش والأجهزة الأمنية والمؤسسات الحكومية الأخرى)، واكدوا على عدم قدرة الحكومة على النهوض بالأمور وحل المشاكل. ولهذا فقد سادة حالة من انعدام ثقة واسع النطاق بالقادة العسكريين في حركة الاحتجاج، وخرج عشرات الآلاف إلى الشوارع في العامين الماضيين للمطالبة بتسليم السلطة على الفور إلى المدنيين. وبعد احتجاجات واسعة النطاق في الأسابيع الأخيرة لدعم حركة المجتمع المدني، أعلن حمدوك في كلمة ألقاها بمناسبة المولد النبوي عن خطة إصلاحية للانتقال السلمي للسلطة إلى المدنيين.
ولقد أدى وجود مثل هذا الخلاف بين القطبين في الحكومة إلى عدة انقلابات فاشلة منذ عام 2019، كان آخرها الشهر الماضي لكنه لم ينجح. ومع تصاعد التوترات بين المدنيين والجنرالات في الحكومة الانتقالية، نظم فصيل موالي للجيش مظاهرة في الشارع الأسبوع الماضي، مرددين "الموت لحكومة جائعة" ودعا الفريق "عبد الفتاح البرهان" قائد القوات المسلحة السودانية مجلس الحكم المشترك، وقال لهم: "ابدأوا انقلاباً واسقطوا الحكومة". وخلال هذه الفترة، فبالإضافة إلى التوترات السياسية، يمر الاقتصاد السوداني بأزمة عميقة مع ارتفاع معدلات التضخم ونقص الغذاء والوقود والأدوية. وفي هذه الحالة، بينما أعلن الجيش أن عدم الكفاءة والفساد المنتشر بين القادة، هو السبب الرئيسي للأزمة الاقتصادية الحالية وسبب الانقلاب، إلا أن العديد من المحللين يعتقدون أن الجيش كان يبحث عن أعذار منذ بداية اتفاق التوزيع العادل للسلطة في مجلس الحكم، وذلك من أجل الاطاحة بأعضاء مدنيين في الحكومة الانتقالية السودانية. وتشير التقارير الواردة من السودان إلى أن نفس شبكة المتظاهرين الذين احتجوا سابقًا ضد نظام "البشير" تحشد الآن للاحتجاج على الانقلاب العسكري. وبحسب صفحة "الفيسبوك" التابعة لوزارة المخابرات السودانية، فقد طلب رئيس الوزراء من الناس النزول إلى الشوارع لدعم الحكومة.
الظروف الاقتصادية الصعبة والتدخل الأجنبي في الحكومة الانتقالية
لقد واجهت الحكومة الانتقالية في السودان بالتأكيد تحديات كثيرة. ولقد أثار تنصيب حكومة تقاسم السلطة المدنية والعسكرية في أغسطس آب الماضي، الآمال في أن يتحسن الاقتصاد، لكن اليوم لم تتمكن الحكومة المدنية برئاسة رئيس الوزراء "عبد الله حمدوك" مكافحة الانهيار الاقتصادي بخزانة شبه مفلسة. وبحسب "حمدوك"، فإن السودان مدين بنحو 60 مليار دولار واشتدت الأزمة الاقتصادية مع تفشي فيروس كورونا. ويواجه المواطنون تضخمًا هائلاً، وطوابير طويلة للحصول على السلع الأساسية، وانقطاع التيار الكهربائي على المدى الطويل. وفي غضون ذلك، يحتفظ الشركاء العسكريون في الحكومة بسلطتهم ويواصلون استغلال المنافع الاقتصادية لانفسهم.
وتعود العديد من مشاكل السودان إلى عقود من الفساد وسوء الإدارة في حكومة "عمر البشير". فخلال فترة حكمه، واجه الاقتصاد السوداني استيلاء النخبة الحاكمة والشركات الكبيرة على موارد الحكومة. ولقد سيطرت الشركات المملوكة للدولة والمملوكة لمسؤولين سياسيين وعسكريين وعائلاتهم وحلفائهم التجاريين على الاقتصاد السوداني واكتسبت احتكارات واسعة النطاق. وعلى الرغم من جمع مليارات الدولارات من عائدات النفط، فشلت حكومة "البشير" في الاستثمار في الاقتصاد السوداني الذي يغلب عليه الطابع الزراعي والحيواني، وبدلاً من ذلك ضخت الأموال في الأمن والبيروقراطية المتضخمة، والتي بدورها تثقل كاهل الدين الدولي، الذي يبلغ اليوم حوالي 60 مليار دولار.
كما تسبب فيروس كورونا إلى شل الاقتصاد وتفاقم محنة العديد من السودانيين. ولقد ألحقت إجراءات الحجر الصحي، بما في ذلك حظر التجمعات الكبيرة وإغلاق المطارات والأسواق والمدارس والجامعات الدولية، أضرارًا بالغة بملايين السودانيين الذين يعملون في القطاع غير الرسمي ويعتمدون على الأجور اليومية. وفي 7 مايو الماضي، قال وزير المالية "إبراهيم البدوي"، إن الإيرادات الحكومية تراجعت بنسبة 37 في المائة عن التوقعات السابقة، وأن الإيرادات الضريبية أقل بنسبة 21 في المائة مما كان متوقعا، والمساعدات الخارجية أقل بنسبة 36 في المائة مما كان متوقعا في الميزانية. وبحسب صندوق النقد الدولي، انكمش اقتصاد السودان بنسبة 7٪ في عام 2020.
وبالإضافة إلى ذلك، أدى الدعم الذي ترعاه الحكومة للوقود والقمح والكهرباء، والذي يقدر أنه استوعب أكثر من 40 في المائة من الميزانية الوطنية في السنوات الأخيرة، إلى انهيار الخزينة الوطنية. وكانت الحكومة غير قادرة على الاقتراض من الأسواق المالية الدولية لتعويض عجز الميزانية، ولهذا فقد اختارت في السابق طباعة النقود، مما أدى بدوره إلى زيادة التضخم. ولقد أبقت الإعانات، وهي من مخلفات عهد "البشير"، أسعار بعض السلع منخفضة بالنسبة للمستهلكين، لكن بسبب تهريب هذه السلع إلى الدول المجاورة، فقد أدى هذا الامر إلى نقص كبير في المواد الأساسية.
وبالإضافة إلى ذلك، أدى الحصار المستمر لأهم موانئ السودان في الشرق من قبل القبائل المحلية إلى نقص السلع الأساسية. وفي العديد من المدن السودانية، يرى زعماء القرى الذين كانوا في السابق جزءًا من نظام دعم "البشير" أن رغبة المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية في تغيير النظام هي "غزو لقواعدهم الانتخابية". وقد أدى هذا في النهاية إلى خلق مشاكل أخرى، مثل حصار الميناء في شرق السودان. وعلى الرغم من اتفاق السلام الذي تم التوقيع عليه العام الماضي مع الجماعات المتمردة في جميع أنحاء البلاد، فقد ارتفع عدد ضحايا العنف السياسي في الأشهر الـ 12 الماضية ووصلت إلى ارقاما قياسية. وفي أغسطس الماضي، توصلت حكومة الخرطوم إلى اتفاق سلام بعد 17 عاما من الصراع مع الجماعات المتمردة. وبحسب الأمم المتحدة، فقد قُتل نحو 300 ألف شخص في اشتباكات في إقليم "دارفور" بغرب السودان منذ عام 2003، وأجبر نحو 2.7 مليون على الفرار من ديارهم.
وفي ظل هذه الظروف، أدت إصلاحات "حمدوك" المالية إلى مزيد من الضغوط الاقتصادية وارتفاع التضخم. ويضاف إلى هذه المشاكل، الخلافات في الحكومة الانتقالية في الاتفاق على قوانين الإصلاح. ولقد وضعت حكومة "حمدوك" بيضها في سلة الدول الغربية لجذب المساعدات الخارجية، ولجأت إلى المهمة الصعبة المتمثلة في تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني من أجل رفع العقوبات الأمريكية. إن السودان دولة مهمة لأنها تقع في واحدة من أكثر المواقع الجيو - استراتيجية في القرن الأفريقي وشمال إفريقيا، على طول ساحل البحر الأحمر الطويل، ويعمل كجسر تاريخي بين شمال وجنوب الصحراء الافريقية. ومع ذلك، لم يكن لهذه الإجراءات نتيجة ملموسة لحل مشاكل السودان الاقتصادية. ولقد أظهرت تجربة السنوات الماضية أن التغييرات التي وقعت في الحكومات السودانية تمت بانقلابات. ولهذا يبقى لنا أن نرى ما إذا كان مدبرو الانقلاب سيتوصلون مرة أخرى إلى اتفاق مع قوى المجتمع المدني وسط إدانة دولية واحتجاجات محلية، أو ما إذا كان تصميمهم على الاستيلاء على السلطة سيغير الوضع.