الوقت- لقد أثبت التاريخ المشترك بين لبنان وسوريا، أنه لا يمكن لأي من الدولتين التخلي عن بعضهما البعض، مهما تغيرت السياسات والحكومات، فالتعاون بين البلدين ضرورة حتمية تفرضها الجغرافيا والوقائع على الأرض، ورغم اشتداد الأزمات الاقتصادية في كلا البلدين، إلا ان التعاون لا يزال ركيزة اساسية لتخطي الصعوبات الاقتصادية التي يواجهها البلدين، ومن هذا المنطلق اجتمع السوريون واللبنانيون يوم أمس لدفع عملية التعاون الاقتصادي بين سوريا ولبنان نحو الأمام.
ففي الأمس عقد في دمشق اجتماع حول التعاون الاقتصادي المشترك بين لبنان وسوريا وسبل تنفيذ الإتفاقيات المشتركة بين البلدين حضره عن الجانب السوري وزير الخارجية فيصل المقداد والسفير السوري في لبنان علي عبد الكريم علي ، وعن الجانب اللبناني كل من النواب حسين الحاج حسن عن حزب الله وعلي حسن خليل عن حركة امل وأسعد حردان عن الحزب السوري القومي الاجتماعي ، والنائب عبد الرحيم مراد وعن حزب الطاشناق النائب آغوب بقرادونيان اضافة الى الوزير السابق صالح الغريب ممثلا الحزب الديموقراطي اللبناني ، وعن تيار المردة بطرس فرنجية.
الاجتماع جاء لبحث التعاون الاقتصادي المشترك بين لبنان وسوريا، وبحسب وسائل اعلام لبنانية فإن الاجتماع يستوجب "تنفيذ الاتفاقيات المشتركة بين البلدين وتخطي لبنان عقدة قيصر".
لماذا لا يستطع لبنان التخلي عن سوريا والعكس صحيح؟
إن الحاجة التكاملية بين البلدين "ضرورية جداً"، فلبنان في الأمن الغذائي الاجتماعي يحتاج إلى الكثير من المواد الأساسية المتواجدة في سوريا، فالأخيرة رغم الحرب لديها إنتاجٌ في المواد الغذائية وفائض في القمح وقدرات زراعية كبيرة جداً، وبالتالي فإن الأسواق اللبنانية ولأنها أسواق استهلاكية غير إنتاجية فهي تحتاج إلى الانفتاح على سوريا".
بالنسبة لقطاع الدواء والمستلزمات الطبية، فسوريا التي افتتحت منذ فترة مصنعاً لتصنيع أدوية السرطان قادرة، على تأمين حاجات لبنان في هذا القطاع استناداً إلى الاكتفاء الذاتي والإنتاج الداخلي الذي تعيشه على مستوى الدواء.
في الحقيقة إن قدرة لبنان على الاستفادة من سوريا أكبر من قدرة سوريا على الاستفادة من لبنان. بالنسبة لسوريا فهي بحاجة إلى لبنان في "اقتصاد المعرفة"، ولا سيما أن الأخيرة لديها بنى تحتية أساسية في علوم التكنولوجيا والإنترنت والكثير من التقنيات المتطورة في هذا المجال التي تحتاجها سوريا. وإضافة إلى ذلك، يمكن لسوريا أن تستفيد من الواقع الطبي والاستشفائي اللبناني مع وجود مستشفيات متطورة جداً. والى جانب السياحة فإن القطاع التعليمي أيضًا في لبنان على صعيد الجامعات والمدارس يشكّل عنصر إفادة للسوريين.
التعاون بين البلدين في هذه المرحلة تحديداً سيعطي نتائج مهمة بالنسبة لكليهما على مستوى انقاذ الوضع الداخلي، فهناك إمكانية للتعامل التجاري والاقتصادي بعملة البلدين بعيداً عن الدولار الأمريكي، الأمر الذي سينعكس إيجاباً على الوضع النقدي.
إن اتفاقات التعاون الاقتصادي المعقودة بين لبنان وسوريا تضع البلدين على مسار تكامل اقتصادي. والتقدم على المسارات التكاملية الاقتصادية، يخضع عموماً لعدد من المتطلبات/ الشروط، أهمها:
أولاً: أن يكون هناك اتفاق بين الأطراف المعنية على الأهداف القريبة والمتوسطة والبعيدة المدى لمسيرة التكامل.
ثانياً: أن يكون هناك قبول بالتغييرات البنيوية الاقتصادية والاجتماعية التي تواكب هذه المسيرة داخل كل بلد. وأن يكون هناك بالتالي وعي للتكاليف الاقتصادية والاجتماعية التي تترتب على هذه التغييرات واستعداد لتحملها (المكاسب التي تنتج من كل شكل من أشكال التكامل تقابلها بالضرورة أضرار تلحق ببعض القطاعات الاقتصادية والفئات الاجتماعية).
ثالثاً: إن مسيرة التكامل (اتفاقات التعاون) لا يمكن أن تنطلق بنجاح من تلقاء نفسها أو من خلال السياسات الاقتصادية القطرية المعتمدة قبل عقد الاتفاقات، بل يتطلب الأمر وضع سياسات قطرية جديدة يكون في صلب اهتمامها توفير مستلزمات النجاح لمسيرة التعاون، من إزالة المعوقات التي تعترض تطبيق الاتفاقات إلى اتخاذ الإجراءات التي من شأنها جعل التحولات البنيوية تجري بسلاسة. مع ما يتطلب ذلك من تنسيق دائم بين هذه السياسات القطرية في مختلف المجالات الاقتصادية والمالية والنقدية والجمركية....الخ.
لقد عبر المسؤولون في سوريا ولبنان عند توقيعهم على اتفاقات التعاون عن رغبتهم في رؤية مسيرة التكامل الاقتصادي تصل إلى أبعد الحدود، بما في ذلك إقامة السوق المشتركة. وشاطرهم في هذه الرغبة ممثلو القطاع الخاص في البلدين.
في لبنان، يجري في الوقت الحاضر ربط مستقبل التعاون الاقتصادي مع سوريا بإعادة النظر بالاتفاقات المعقودة في التسعينيات من القرن الماضي، باعتبار أن بعضها مجحف بحق لبنان وبعضها الآخر تجاوزته الأحداث. من جهتنا، نرى أن بعض هذه الاتفاقات أصبح فعلاً بحاجة إلى إعادة نظر. لكن هذا لا يعني أن مسيرة التعاون الاقتصادي بين البلدين ستنطلق بمجرد إعادة النظر هذه. فالأمر يتوقف توقفاً رئيسياً على مدى توافر ثلاثة شروط سبق ذكرها ويمكن تفصيلها، في الحالة اللبنانية السورية تحديداً، على الشكل الآتي:
الأول: إعادة النظر باستراتيجيات التنمية (الاقتصادية ــــ الاجتماعية) المعتمدة حالياً في البلدين بحيث يوضع حد للاتجاهات الريعية الحالية وبحيث يصبح هدفها الرئيسي، تكوين قاعدة إنتاجية صناعية ــــ زراعية ــــ خدماتية متينة ومتكاملة تستطيع المنافسة في الأسواق العالمية وتطلق في الوقت نفسه حركة نمو سريع ومستدام، خالق لفرص عمل وفيرة. وهذا يتطلب عدم الانصياع الأعمى للوصفات الليبرالية المتطرفة وبالتركيز على الدور المحوري للدولة في عملية التنمية وتقويم توجهات القطاع الخاص والتعامل مع العولمة انطلاقاً من المصلحة الوطنية أولاً وأخيراً. ويمكن بهذا الخصوص الإفادة من تجارب البلدان الناشئة في شرق آسيا.
والثاني: أن تأخذ الاستراتيجيات الاقتصادية بعين الاعتبار المزايا النسبية لكلا البلدين. أي التأسيس على أن سوريا تتمتع بوفرة من الموارد الطبيعية (أراض زراعية، نفط وغاز، معادن مختلفة...) ولديها كذلك وفرة في اليد العاملة الرخيصة، فيما لبنان لديه وفرة من الموارد البشرية المؤهلة والخبرات في مختلف القطاعات الخدمية (صيرفة، تأمين، تسويق، إعلام، تعليم، اتصالات، صحة...) وفي العديد من الصناعات المتطلبة لتقنيات متقدمة. مما يقتضي العمل على إجراء تحولات بنيوية في كل من الاقتصادين تؤدي تدريجياً إلى تكاملهما.
ويستتبع هذان الشرطان شرطاً ثالثاً هو ضرورة التنسيق الدائم بين البلدين على صعيد السياسات والإجراءات (بما في ذلك التشريعات والأنظمة) الاقتصادية والمالية والنقدية والجمركية والاجتماعية، وصولاً إلى تحقيق درجة متقدمة من التجانس في ما بينها.
متى توافرت هذه الشروط، فإن مسيرة التعاون بين لبنان وسوريا يمكن أن تنطلق فعلاً ويمكن معها أن تنطلق بسرعة وزخم مسيرة النمو الاقتصادي المطرد والمصاحب للقضاء على البطالة والفقر في البلدين. ذلك أن التعاون بينهما يمكن أن يبدأ في مجالات كثيرة وحيوية لعملية التنمية. ومن هذه المجالات ما تناولته الاتفاقات المعقودة في التسعينيات. ومنها ما يجب أن يكون موضوعاً لاتفاقات جديدة. وفي الحالين يجب أن تتصاحب الاتفاقات الموضوعة مع آليات مفصلة وبرامج زمنية لتنفيذها.