الوقت- شهدت ليبيا منذ انتفاضة الـ 17 فبراير 2011 التي أطاحت بالقذافي بعد تدخل حلف شمال الأطلسي (ناتو) ودول أخرى، تطورات متلاحقة وضعتها ضمن دائرة الدول التي توصف بـ"الفاشلة"، ولا سيما مع تزايد الصراعات الداخلية على السلطة وانتشار الميليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية وتعددها على أراضيها؛ ففي الوقت الذي كان فيه مأمولا مع سقوط نظام القذافي وتدخّل المجتمع الدولي لفرض عملية انتقال سلمي للسلطة، أظهرت تطورات الأحداث حقيقة مرة مفادها بأنّه مع وفاة العقيد الليبي تهاوت الدولة بكل أجهزتها لأنها بُنيت على شخص القذافي.
وعقب قتل القذافي في أكتوبر 2011، تولي المجلس الوطني الانتقالي إدارة شؤون الدولة برئاسة الوزير السابق مصطفى عبد الجليل حتى تسليمه السلطة للمؤتمر الوطني العام المنتخب في أغسطس 2012، حينها رفضت القوى السياسية الموالية للإخوان الانتخابات التي أجريت، ونشب صراع بين حكومة طرابلس وحكومة طُبرق حتى ديسمبر 2015 تاريخ توقيع اتفاق الصخيرات بإشراف أممي أفرز "حكومة وفاق وطني" تدير المرحلة الانتقالية لمدة ثمانية عشر شهراً، مع الاعتراف بمجلس النواب المنتخب الذي اعتمد من معظم القوى الموافقة عليه في 6 أبريل 2016.
غير أن الانقسامات والصراعات الداخلية سرعان ما عادت لتعصف بوحدة الصف الليبي، ولا سيما بعد اتضاح اتجاه حكومة الوفاق، الأمر الذي دفع خليفة حفتر في ديسمبر 2017 إلى الإعلان أن الاتفاق السياسي الليبي الموقع في الصخيرات بالمغرب قد انتهت صلاحيته بعد انتهاء الفترة الزمنية المحددة له، ومعه ولاية "حكومة الوفاق الوطني"، ومن ثم بدأ في التحرك عسكرياً، وهو الصراع الذي اتسع وأخذ أبعاد إقليمية ودولية عديدة.
ولتعميق الفهم بطبيعة الصراع والأزمة الليبية، يتعين بداية توضيح خارطة الفاعلين، والتحالفات المتصارعة، وأهداف كل منها ودور التقارب والتباعد في ما بينها. ويمكن، في هذا السياق، الإشارة إلى ثلاثة محاور أو مجموعات رئيسية، حسب ما يلي:
1- مجموعة غرب ليبيا (طرابلس وحلفاؤها): مركزها طرابلس، وتمثلها حكومة الوفاق المنبثقة من اتفاق الصخيرات برئاسة فائز السراج. وتضم مجموعات مسلحة تابعة مباشرة لتلك السلطة السياسية، وترتبط هذه المجموعة بشبكة تحالفات قوية تصل إلى حد الدعم المباشر من جانب بعض الدول الإقليمية، وخصوصاً قطر وتركيا وعلى المستوى الدولي تحظى هذه الحكومة باعتراف الأمم المتحدة وتدعمها بعض القوى الدولية مثل إيطاليا.
2- مجموعة شرق ليبيا (طبرق): يشكل "الجيش الوطني الليبي" الكيان الداخلي الأبرز في هذه المنطقة، ويقوده خليفة حفتر. تأسس هذا الكيان عام 2014 واستطاع في الأشهر الأولى من عام 2019 مد نفوذه إلى بعض مناطق الجنوب والغرب، بتفاهمات وتوافقات قبلية أحياناً وبمواجهات مسلحة أحياناً أخرى وتحظى هذه المجموعة التي ترفع شعار مكافحة الإرهاب بدعم قوى إقليمية منها مصر والإمارات، وقوى دولية منها فرنسا وروسيا.
3- أطراف شبه محايدة: لا تتبنى هذه الأطراف مواقف مسبقة مع أو ضد، ولا تنحاز لأي من الشرق أو الغرب؛ وتتمثل هذه المجموعة بشكل أساسي في معظم مكونات وقبائل الجنوب داخل ليبيا. ومن خارج ليبيا الجزائر وتونس في الجوار المباشر، وبعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا، ويمكن ضم الولايات المتحدة إلى هذه المجموعة لأن مواقفها من الصراع وأطرافه غامضة ومتناقضة، فأحيانا تنسق مع حكومة الوفاق وتعتبرها الشرعية، وأحيانا تنسق مع حفتر باعتباره شريكاً في مكافحة الإرهاب.
شهدت الأزمة الليبية منذ أواخر عام 2019، تصعيداً ملحوظاً مدفوعاً بتكثيف تركيا تدخل العسكري في الأزمة بالتزامن مع تزايد الجهود السياسية والدبلوماسية للتوصل إلى تسوية سلمية لها، لمنع اتساع نطاق الصراع.
لم تشهد الأوضاع السياسية في ليبيا استقراراً منذ الإطاحة بالقذافي ومقتله عام 2011 نتيجة لعوامل متداخلة داخلية متمثلة في غياب الإجماع وانعدام التوافق بين المكونات الاجتماعية والسياسية الليبية على خلفية تباينات قبلية وعشائرية قديمة، وتناقضات جذرية في الرؤى وتوجهات سياسية يصعب تجاوزها ولا تقبل الحلول الوسط وخصوصاً مع وجود قوي ونفوذ ملحوظ في بعض المناطق الليبية لقوى وجماعات إسلامية متنوعة من الإخوان والسلفية وداعش والقاعدة.ومع استمرار الاضطراب والانفلات الأمني، تحولت الساحة الليبية كذلك إلى مصدر جذب لموجات متتالية من الإرهابيين والمرتزقة. وتوجت هذه العوامل بالطموحات الشخصية وتطلعات بعض الرموز والقادة المحليين نحو السلطة، لتتضافر معاً وتحول دون التوصل إلى توافقات ولو نسبية أو صيغ سياسية مقبولة تلبي مصالح مختلف القوى والمكونات وتعكس أوزانها النسبية دون تهميش أي منها.
ومع ذلك، فقد شهدت الأزمة الليبية العديد من المبادرات والجهود المهمة التي توصلت إلى مجموعة من التفاهمات والأسس التي يمكن البناء عليها للتوصل إلى تسوية سلمية، ومن أبرزها:
1- مؤتمر باليرمو الذي عقد يومي 12 و13 نوفمبر 2018 في إيطاليا بحضور أطراف الأزمة الليبية وعددٍ من القوى الإقليمية والدولية ودول الجوار الليبي، والذي أكد أيضًا أهمية احترام نتائج الانتخابات، ومحاسبة أولئك الذين يُعرقلون إجراءها. وشدد المؤتمر على رفض الحل العسكري في ليبيا، واعتماد الاتفاق السياسي الليبي المتفق عليه (اتفاق الصخيرات)، كإطار وحيد قابل للتطبيق من أجل مسار دائم نحو الاستقرار في ليبيا
2- مؤتمر برلين الذي انعقد في 19 يناير 2020 بمشاركة 11 دولة معنية بالأزمة الليبية، بعد إخفاق محاولة موسكو وأنقرة تثبيت اتفاق لوقف القتال؛ ورغم أن المؤتمر انعقد على خلفية التصعيد العسكري التركي، وتصريحات أنقرة بإرسال قوات تركية إلى ليبيا، إلا أن مخرجاته مثلت نقلة في اتجاه التسوية على خلاف ما سبقه من لقاءات واجتماعات سواء دولية أو إقليمية. كما تبنى المؤتمر منظوراً يتسم بدرجة عالية من الشمولية في الاقتراب إلى التسوية السياسية إذ راعى ضرورة معالجة كل الملفات العالقة وليس الاقتصار على اتفاق سياسي بمعزل عن الواقع الميداني وتعقيداته.
وبموجب مقررات مؤتمر برلين، تم تشكيل لجان منفصلة للتفاوض في كل ملف أهمها اللجنة الأمنية والعسكرية التي عقدت بالفعل اجتماعين في شهر فبراير 2020، ثم تعطلت الاجتماعات بسبب عدم توقف القتال واستمرار العمليات العسكرية. كما اتفق المشاركين في المؤتمر أن "لا حل عسكريا للنزاع"، وتعهدوا باحترام حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة عام 2011 على ليبيا.
3- إعلان القاهرة الذي جاء في أعقاب التحول الذي طرأ على موازين القوى على الأرض واستعادة قوات "الوفاق الوطني" السيطرة على مناطق غرب ليبيا، جعل مصر تبادر إلى استضافة لقاء جمع خليفة حفتر والمستشار عقيلة صالح رئيس البرلمان الليبي. وقد مثل اللقاء محطة مهمة في التنسيق والتفاهم بين الطرفين الأساسيين في شرق ليبيا (البرلمان والجيش الوطني).
وأسفر هذا اللقاء عن إصدار بيان تحت عنوان "إعلان القاهرة" يدعو إلى وقف القتال، ويرسم خارطة طريق لحل سياسي شامل لكل القوى والمكونات الليبية؛ ورغم أن مبادرة مصر تضمنت تفاصيل كاملة وإجرائية للحل السياسي، ولقيت تأييد عربي واسع وترحيب بعض القوى الخارجية خصوصاً روسيا وفرنسا، إلا أن دولاً أخرى، منها الولايات المتحدة مالت إلى إحياء مسار برلين كأساس لاستئناف التفاوض.
وبتاريخ 10 مارس 2021 في خطوة مفصلية، صوت البرلمان الليبي اليوم الأربعاء على منح الثقة لحكومة الوحدة الوطنية التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة في إطار خطة تدعمها الأمم المتحدة لإنهاء عقد من الفوضى والعنف تشمل إجراء انتخابات في ديسمبر المقبل.
وفي اخر المستجدات على الصعيد السياسي تعقد اللجنة القانونية بملتقى الحوار السياسي الليبي اجتماعاً في تونس، الأربعاء المقبل، للحسم في قاعدة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرّرة أواخر ديسمبر المقبل.
وقالت عضو ملتقى الحوار السياسي، سلوى الدغيلي، في تغريدة عبر «تويتر»، إنّ بعثة الأمم المتحدة دعت إلى اجتماع اللجنة القانونية لملتقى الحوار، مشيرة إلى أنّ الاجتماع سيعقد بين 7 - 9 أبريل في العاصمة التونسية لبحث آخر التطورات في العملية السياسية.
وكانت البعثة الأممية عهدت للجنة القانونية، التي أعلنت عن تشكيلها منتصف ديسمبر الماضي من 17 عضواً من أعضاء الملتقى، بوضع قانون للانتخابات الوطنية المقرر إجراؤها أواخر العام الجاري.