الوقت- إن خطاب أردوغان أمس أمام مجموعة من خبراء الدفاع والمهندسين المختصين في صناعة السفن والقوارب البحرية التركية في اسطنبول، كان له أبعاد سياسية وفكرية مهمّة تظهر أنّ الرئيس التركي وزعيم حزب العدالة والتنمية يفكّر هذه الأيام أكثر من أيّ شيء آخر، في القوة الصلبة والسلطة العسكرية والاكتفاء الذاتي في الصناعات الدفاعية ، بل إنه تحدث عن الحاجة إلى صناعة حاملات طائرات.
إن تأكيد أردوغان المتكرر على الحاجة إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في المجال الدفاعي، وزيادة القدرة العسكرية والتوسع الإقليمي في المنطقة ، والاعتماد على القوة الصلبة، تعكس جميعها تصوراته الجديدة لمفهوم القوة والموقع الإقليمي والعالمي لتركيا.
من الديمقراطية الى الاستقلال
اجتاح حزب العدالة والتنمية المشهد السياسي بشعارات مثل الديمقراطية القائمة على القيم المحافظة، والتكنوقراطية القائمة على تقديم الخدمات وتجنب الفساد، والعلاقات الإقليمية والدولية الديناميكية، والسوق الحرة وليبرالية التجارة، فضلا عن ضمان حقوق المواطنين ومطالِب الأقليات والقوميات، وتمكن الحزب الحاكم أن يسبق جميع الأحزاب في الساحة السياسية.
لكن على مدى السنوات الماضية، لم يتحدث قادة الأحزاب لا عن الديمقراطية ولا عن الحقوق ولا عن حرية التعبير والمساواة العرقية. وبدلاً من ذلك ، أصبح حديثهم الدائر ليلاً ونهارًا، يدور حول الاستقلال والسلطة والبقاء القومي والتحول إلى قوة عالمية. وفي الآونة الأخيرة ، تم إيلاء المزيد من الاهتمام لمفهوم الاستقلال في خطابات زعيم حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان وأعضاء بارزين في فريقه وشخصيات بارزة أخرى في الحزب الحاكم.
وأصبحوا أحياناً يتحدثون عن مفهوم الاستقلال بشكل مبالغ به وكأن تركيا دولة محتلة وممزقة بالحروب، وعليها أن تخرج من نير المحتلين والمستغلين بأسرع ما يمكن وتتقدّم نحو الاستقلال وتشكيل الحكومة. لكن لماذا يعتبر مفهوم الاستقلال مهماً جداً لأردوغان وحلفائه؟ للإجابة على هذا التساؤل ، يمكننا أن نشير إلى قضيتين مهمتين:
1-إن الاستقلال الاقتصادي والاكتفاء الذاتي العسكري والقدرة على اتخاذ قرارات مستقلة في مجال السياسة الخارجية، بالنسبة لفريق الرئيس الحالي لتركيا، أهم بكثير من المفهوم الذي أشار إليه الكماليون. وفي الواقع ، كانت قراءة أردوغان وموقفه من مفهوم الاستقلال، بشكل تجعل من جهود مصطفى كمال أتاتورك التاريخية لإنشاء الجمهورية، جهود قيمة ولكنها غير كافية.
2-تشير الأدلة إلى أن فريق أردوغان يخوض صراعاً خطيراً مع الكماليين، وعلى عكس الكماليين، يسعى فريق أردوغان إلى تفسير مفهوم الاستقلال على أنه امتداد للاقتدار التاريخي للإمبراطورية العثمانية. ونتيجة لذلك ، يضطر أعضاء بارزون في فريق أردوغان، مثل إبراهيم كولين، أحيانًا إلى اتخاذ موقف ضد مفاهيم مثل النزعة الغربية واتخاذ إجراءات جادة ضد الوثائق التاريخية المعروفة مثل لوزان.
تركيا .. القومية والعسكرة
مفهوم القومية في الأدب السياسي التركي له أبعاد وطبقات مختلفة، من القومي الإسلامي إلى القومي الليبرالي، ومن القومي الكمالي إلى القومي اليساري، ولكل منها قراءة مختلفة لمفهوم الأمة والقومية. وأحيانًا تكون الفروق بين هذه التيارات السياسية والاجتماعية كبيرة جدًا لدرجة أنها تخرجها من الوعاء الكبير للقومية إلى وعاء آخر وخطابات مختلفة.
على سبيل المثال، أصبحت القواسم المشتركة بين القوميين المحافظين والقوميين الكماليين غير واضحة بشكل متزايد. لأن هذين الطرفين لهما اختلافات جوهرية في القضايا والأبعاد المهمة مثل أسلوب الحياة، وآداب السلوك الاجتماعي ، والحرية الفردية والاجتماعية ، والتوازن بين الشرق والغرب وقراءة تاريخ لتركيا.
ما تبين من قضية القومية التركية في السنوات الأخيرة هو أن التيار القومي المحافظ يولي أهمية متزايدة لمفاهيم مثل القوة. وفي الأساس ، ترتبط القومية التقليدية في تركيا ارتباطًا وثيقًا وقديمًا بالنزعة العسكرية وأجهزة الشرطة والأمن، ويزداد هذا الارتباط يومًا بعد يوم. لكن ما يبدو غريباً هو أن حزب العدالة والتنمية ، على الرغم من طبيعة تأسيسه، يتحرك بشكل أسرع في هذا الطريق من الأحزاب القومية التقليدية.
على سبيل المثال، كان هناك اختلاف كبير بين وجهات النظر القومية لأردوغان وباغجلي الى ٧ سنوات سابقة. وكان باغجلي يتحدث ليل نهار عن ضرورة الاهتمام بالأمة التركية واتهم أردوغان بالتعاون مع الانفصاليين الأكراد في تركيا. من جانبه كان أردوغان يتحدث في خطاباته دائمًا بأنه يحترم جميع البشر والقوميات، وأن الأكراد والأتراك والعرب والشركس لا فرق بينهم عنده. حتى أن اردوغان استخدم في العديد من خطاباته الشعر الصوفي ، مؤكداً على القضايا الإنسانية وضرورة ايلاء الاهتمام للعدل والمساواة وحقوق المواطنة أكثر من أي شيء آخر.
لكن الآن لا يوجد فرق جوهري بين الأدبيات السياسية لأردوغان وباغجلي، فكلاهما يتحدّثان عن الوجود القومي لتركيا وضرورة بذل الجهود لتعزيز القوة العسكرية للعودة إلى مجد تركيا التاريخي. لأن القضايا المهمة مثل الانقلاب الفاشل لفتح الله غولن في عام 2016، وعدم التزام قادة حزب العمال الكردستاني بمحادثات السلام والمشكلات الخطيرة في الهيكل العسكري والأمني التركي، جعلت فريق أردوغان قلقاً ومتشائماً للغاية.
نتيجة لذلك، خلص مركز الأبحاث التابع لحزب العدالة والتنمية إلى أن الاهتمام بالقوة العسكرية والأمنية للحكومة والقدرة على مواجهة أي مؤامرة وتحركات سرية، هي أهم بكثير من قضايا مثل الحقوق والديمقراطية وحرية التعبير، وأن "الوجود القومي" هو مفهوم تفقد أمامه جميع المفاهيم الأخرى أهميتها
بالإضافة إلى ذلك، فقد الحزب الحاكم بعض ناخبيه في السنوات الأخيرة، واضطر إلى المشاركة مع التيار الاجتماعي والسياسي الأكثر تطرفا للقومية ، أي دولت باغجلي وحزب الحركة الوطنية. وبالنظر إلى الصورة الواضحة حول تطورات تركيا الداخلية ، فضلاً عن الفكر السائد لدى قادة حزب العادلة والتنمية، فمن الطبيعي أن الحفاظ على القوة وتعزيز القوة العسكرية وإظهار الجهود العسكرية والأمنية وجهودهم للعودة إلى مجد الماضي، تشير الى ان مفاهيم الديمقراطية وسيادة القانون والمساواة ، الى جانب الرفاهية والتنمية الاقتصادية وتقيدم الخدمات، تفقد قيمتها وأهميتها أمام مفاهيم القوة.
في مثل هذه الأجواء، أصبح التعامل والارتباط بين القومية والعسكرة من أهم الركائز السياسية لـ"تحالف الجمهور" التركي، ويقوم قادة هذا التحالف بدورهم في تهميش أي معارضة من خلال اتهامهم بمحاولة الانقلاب وتهديد الأمن القومي، ومن المحتمل ألّا يعيد الحزب الحاكم النظر في مفهوم التوسع السياسي في تركيا، ما لم يتعرض تحالف الجمهور للضعف والانقسام.