الوقت-إن التطوّرات في العراق خلال الأسابيع القليلة الماضية، تشبه بنسبة كبيرة في الواقع، قطع لعبة الألغاز التي عندما نوصلها ببعضها البعض، تنتج نتائج ربما كانت قد حدثت قبل شهرين تقريباً، لكنها لم تكن متوقّعة قبل تولّي مصطفى الكاظمي منصب رئاسة مجلس الوزراء في العراق.
عندما اتفقت الأغلبية الساحقة من البيت الشيعي على اختيار مصطفى الكاظمي رئيساً للوزراء العراقي الجديد، كان هناك أمل في أن يقوم بعمل مرضٍ في المهام الموكلة إليه في مختلف المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية، وأن يقود دفة البلاد إلى شواطئ السلام والاستقرار والهدوء، لكنّ التطورات الأخيرة في العراق تظهر أن ما حدث في العراق بعيد عما كان متوقعاً.
وتظهر نظرة على سجل مصطفى الكاظمي الذي يعمل في منصبه منذ شهرين، أنه لم يقم بأي من المهام الموكلة إليه، وتولى رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي قيادة البلاد للقيام بأربع مهمات استراتيجية رئيسة، المهمة الأولى كانت تحسين الظروف المعيشية للشعب وإنقاذ الاقتصاد العراقي، والثانية هي الاستعداد للانتخابات البرلمانية المبكرة، والثالثة كانت إنهاء وجود القوات الأجنبية والأمريكية في العراق، والرابعة محاربة الفساد وتقديم الفاسدين إلى القضاء.
على الرغم من كل هذا، فإن نظرة خاطفة على سجل مصطفى الكاظمي خلال هذين الشهرين تظهر أنه لم يجعل أيّاً مما سبق أولوية في جدول أعماله، وفي الفترة التي كان الكاظمي على رأس الحكومة العراقية، لم يتحسّن الوضع الاقتصادي ولا متطلّبات الحياة للشعب العراقي، في الوقت الذي تعهّد الكاظمي قبل تولّيه منصبه، بتلبية مطالب الناس الاقتصادية.
ومن ناحية أخرى، كانت إحدى أهم أولويات حكومة الكاظمي باعتباره رئيساً مؤقتاً للبلاد، هي تمهيد الطريق لإجراء انتخابات برلمانية مبكّرة، الأمر الذي بقي حبراً على ورق حتى اللحظة. لم يتخذ الكاظمي أي خطوات أولية لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة خلال فترة رئاسته الماضية؛ وكأنه ينوي البقاء رئيساً للوزراء حتى نهاية البرلمان الحالي.
يأتي ذلك في الوقت الذي أعرب فيه المرجع الديني الأعلى في العراق آية الله السيد علي السيستاني عن دعمه لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة من خلال ممثليه ووكلائه، وفي وقت سابق، أعلن وكيل السيد السيستاني في كربلاء أنّ سماحته يرغب بتمهيد الطريق والأجواء لإجراء انتخابات برلمانية مبكّرة، ومع ذلك، لم يتحقّق ذلك بعد بسبب تجاهل الكاظمي للأولويات.
الأولوية الأخرى التي أهملها الكاظمي هي تنفيذ القرار الرسمي للبرلمان العراقي بشأن طرد القوات الأمريكية من البلاد، حيث إنه وقبل تكليف الكاظمي برئاسة الوزراء، حذّرته الكتل الشيعية والعراقيون مراراً وتكراراً من ضرورة القيام بهذه الخطوة، ويقال حتى إنّ الكتل الشيعية وافقت على تكليف الكاظمي مقابل تنفيذه قرار البرلمان بطرد القوات الأمريكية من أرض البلاد، الأمر الذي لم يتحقق بعد.
وعلى الرغم من ذلك، لم تكن هناك أدنى محاولة من قبل الحكومة العراقية لطرد الأمريكيين من العراق مؤخرا، وما زالوا يجوبون البلاد كيفما شاؤوا، وقد أثار ذلك انتقادات شديدة من هادي العامري، زعيم تحالف الفتح العراقي. وقال العامري "عن أي هيبة للبلاد تتحدثون؟" "عندما تحلّق المقاتلات المعتدية في سماء العراق دون إذن، فأين السيادة وأين الهيبة؟"
واستناداً إلى كل ما قيل، من الواضح أن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي قد استبدل جميع الأولويات ووضع قضايا أخرى على رأس أولوياته، ومن بين القضايا التي يسعى الكاظمي إلى تحقيقها بدلاً من أولوياته الرئيسة، وضع عقبات أمام تحركات قوات الحشد الشعبي، وترك الأمريكيين يعملون بحُرّية لتكثيف تحركاتهم في العراق، وإجراء تغييرات غامضة ومريبة في الملف الأمني العراقي. وهذا يعني أن الكاظمي سيغيّر جميع الأولويات في العراق.
وقام الكاظمي بتغييرات واسعة النطاق في الملف الأمني العراقي خلال الأيام الماضية، وفي هذا الصدد أصدر قراراً بتعيين عبد الغني الأسدي رئيساً لجهاز الأمن الوطني العراقي بعد أن تمت إقالته من قبل رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، كما أصدرت القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية مرسوماً آخر ينهي صلاحيات فالح الفياض كمستشار للأمن القومي للبلاد وتعيين قاسم الأعرجي مستشاراً للأمن القومي بدلاً من الفياض.
أصبح الغموض الواسع في طبيعة التغييرات في الملف الأمني العراقي من قبل مصطفى الكاظمي أكثر وضوحاً بعد تعيين عبد الغني الأسدي رئيساً لجهاز الأمن الوطني العراقي. الأسدي عضو سابق في نظام صدام، وقد تمت إقالته في عهد عادل عبد المهدي بشكل غير رسمي وأحيل على التقاعد رسمياً قبل نحو عامين.
وبناءً على هذا، فإن تعيين شخص بهذه السوابق في أعلى هرم جهاز الأمن القومي يمكن أن يحمل رسائل مختلفة؛ رسائل تهدف لإرضاء الأمريكيين بلا شك. وفي الوقت نفسه، فإن عزل "فالح الفياض" من منصب مستشار الأمن القومي هو الإجراء الآخر الذي يظهر الغموض في اجراءات الكاظمي. الفياض شخصية مقربة من الحشد الشعبي وكان حاضراً دائماً في جبهات قيادة الجهاد ضد الإرهاب التكفيري. لذلك، فإن إقالته من منصبه تحمل أيضاً رسالة سلبية موجّهة إلى قوات الحشد الشعبي المقاوِمة.
وفي الوقت نفسه، فإن هجوم جهاز مكافحة الإرهاب العراقية بقيادة مصطفى الكاظمي على اللواء 45 التابع للحشد الشعبي في منطقة الدورة ببغداد ليس قضية يمكن التغاضي عنها بسهولة، يبدو أنّ الكاظمي يسعى الى إرضاء الأمريكيين وتحقيق رغباتهم من خلال استبدال الأولويات، ولم يتخذ الكاظمي موقفاً تجاه هذا التحرّك ضدّ الحشد الشعبي، وهذا يدلّ على أنّه لم يندم على فعله.
بالإضافة إلى ذلك، تظهر التحرّكات العسكرية الأمريكية، بما في ذلك اختبار منظومة صواريخ من قبل السفارة الأمريكية في العراق، أنّ الكاظمي ترك واشنطن حرّة في اتخاذ أيّ إجراء على الأراضي العراقية، في انتهاك واضح للسيادة الوطنية العراقية، إنّ الاختبار الصاروخي على أراضي دولة مستقلة ينتهك القانون الدولي، ومع ذلك فإن رئيس الوزراء العراقي لا يزال متردداً في اتخاذ إجراءات حاسمة لمنع تكرار مثل هذه الأعمال غير القانونية من قبل الأمريكيين.
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يضاف إلى سجل إخفاق رئيس الوزراء العراقي الحالي، عدم اتخاذه موقف صارم ضد الكاريكاتير المهين لصحيفة الشرق الأوسط السعودية ضد آية الله السيستاني، وعلى الرغم من إدانة العديد من الشخصيات العراقية وغير العراقية لهذا العمل السعودي، إلا أنّ الكاظمي رفض حتى الآن اتخاذ موقف.
بشكل عام ونتيجة لما ذٌكر، يبدو انه عندما نوصل أجزاء لعبة اللغز حول أداء مصطفى الكاظمي كرئيس لمجلس الوزراء العراقي خلال الأشهر الماضية، تظهر النتيجة أن رئيس الوزراء العراقي يتحرك بغموض وريبة بهدف جعل الأولويات تناسب مطالب الأمريكيين.