الوقت- تجري في العالم تغييراتٌ يمكن القول أنها جذرية على أكثر من صعيد. فما حدث منذ يومين في بريطانيا ووصول رجلٍ يساريٍ معادٍ للسياسات الليبرالية إقتصادياً، ولتلك التي تأجج الحروب سياسياً، يعني الكثير في بلدٍ مثل بريطانيا يعرف الجميع تاريخه العريق بالإستعمار أيام بريطانيا الكبرى، ودعم مشاريع الصهيونية والسياسات الأمريكية بعد إنتقال المركزية العالمية لواشنطن. وهو ما يحتاج للوقوف عنده وقراءته بتأنٍ. فماذا في فوز الإشتراكي جيريمي كوربين زعيماً لحزب العمال البريطاني؟ وكيف يمكن قراءة دلالات ذلك على الساحة الداخلية البريطانية وعلى السياسات الخارجية لها؟
تقرير حول فوز كوربين:
في خطوة قال عنها المراقبون أنها قد تجعل خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي أكثر ترجيحاً، انتخب الإشتراكي العتيد جيريمي كوربين زعيماً جديداً لحزب العمال البريطاني المعارض. وحصل كوربين على 251417 صوتا تمثل 59.5 بالمئة من الأصوات من الجولة الأولى. وبمجرد إعلان النتائج قوبل بالهتاف والعناق حتى من بعض منافسيه. وهزم كوربين 66 عاماً وزيرين سابقين من حزب العمال هما إيفيت كوبر وآندي برنام كما هزم ليز كندال والتي تعتبر ممثلة للسياسات التي يؤيدها رئيس الوزراء السابق توني بلير، وذلك بفضل المساندة التي حظي بها كوربين من جانب النقابات العمالية، نتيجة وعوده بزيادة الإستثمارات الحكومية من خلال طبع الأموال وإعادة تأميم قطاعات واسعة من الإقتصاد.
من جهةٍ أخرى واصل أعضاء ما يُعرف بحكومة الظل العمالية في بريطانيا تقديم استقالاتهم بعد إعلان فوز كوربين بزعامة حزب العمال. فبعد استقالة وزير صحة جامي رييد، أعلن وزير التعليم تريسترام هانت أنه لن يبقى في حكومة الظل بقيادة كوربين. كما أعلنت إيما رينولدز، وزير الجالية والحكومة المحلية إنها ستعود إلى المقاعد الخلفية في مجلس العموم، فيما أعلنت القيادية بالحزب ووزيرة العمل، راشيل ريفيز، إنها ستترك منصبها وتعود إلى المقاعد الخلفية بعد فوز جريمي كوربين.
قراءة في الدلالات الظرفية والإستراتيجية:
يبدو أن بريطانيا دخلت نفقاً جديداً يُعتبر الثاني بعد نتائج الإنتخابات الأخيرة التي أحدثت تغييراً ولو طفيفاً في نمط الحكم والنظام الداخلي. في حين يُشكل وصول شخصيةٍ مثل كوربين لرئاسة حزب العمال، منعطفاً ليس فقط على صعيد الحزب وسياساته ورئاسته، بل ما يؤثره ذلك على صعيد السياسة الداخلية والخارجية لبريطانيا. وهنا نُشير للتالي:
- داخلياً، يرى محللون أنّ انتخاب جيريمي كوربين الراديكالي اليساري زعيماً للمعارضة البريطانية، سيحدث انقساماً في صفوف حزب العمال، بل ربما رحيل الوسطيين، الأقرب من الخط الإصلاحي، الذي يدعو إليه توني بلير على سبيل المثال، والذي لا تروقه معارضة كوربين، لا سيما رؤيته الإقتصادية كسياسات التقشف كما رؤيته السياسية. فيما بقيت أوساط الأعمال البريطانية المحسوبة على المحافظين بعيدة عن النقاش السياسي، مكتفيةً بالتحذير من سياسة ومقترحات كوربين. فسياسة التقشف التي ينادي بها، الى جانب آلية فرض سقف على الأجور المرتفعة جداً وإعادة تأميم بعض الصناعات، تأتي في عكس مصلحة هؤلاء.
- على الصعيد الخارجي والقومي، لا بد من الإشارة الى بعض المواقف والتصريحات التي تدل على حجم التباين في المواقف بين رئيس حزب العمال الجديد، وأسلافه في الحزب. فالبعض يصف كوربين بنصير العرب والمسلمين، فهو المعروف بموقفه الرافض للحرب على العراق، في حين يراه آخرون داعماً للقضايا العادلة في العالم. فقد صرح كوربين في العام 2012 إلى أنه "إذا لم نعترف بالحقوق الفلسطينية فإننا سنكون أمام عواقب وخيمة وبريطانيا تتحمل مسؤولية خاصة". فالرجل معروفٌ بمواقفه التي جعلته حالياً كما قال الصحفي البريطاني الشهير بيتر أوربون، أول رئيس حزب بريطاني يأتي تماماً من خارج المؤسسة السياسية البريطانية السائدة منذ مارغريت ثاتشر في عام 1975. وهو ما يعني من الناحية العملية، دخول بريطانيا منعطفاً جديداً قد يؤثر على سياساتها الخارجية والقومية، في حال نجح كوربين في جمع تأييدٍ لسياساته. وهو الأمر الذي جعل رئيس الحكومة البريطانية الأسبق ورئيس حزب العمال بين العامين 1994 و2007 توني بلير، يقود حملة شرسة ضده، محذراً حزب العمال من أنه سيُباد لو أصبح كوربين زعيما له. فيما أشار وزير الخارجية السابق جاك سترو، في مقابلة مع نشرة أخبار القناة الرابعة في 13 آب الماضي، إن الإنتخابات لا يجوز أن يتم يحكم فيها بناء على الحرب على العراق. في إشارةٍ الى كوربين الذي تعهد سابقاً بالإعتذار عن حرب العراق التي شاركت فيها بريطانيا عام 2003، إبان حكم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، في حالة فوزه برئاسة حزبه. وهو ما يدل على حجم الإختلاف بين النخب السياسية في بريطانيا، ولو انتمت لنفس الأحزاب.
- وبعيداً عن آراء الآخرين حول الرجل، فإن الحديث قليلاً عن آرائه ومواقفه يمكن أن يكون لها العديد من الدلالات المستقبلة حول ما ينتظر بريطانيا. من الناحية السياسية، فكوربين السياسي اليساري البريطاني، هو من مؤيدي قيام عملية السلام في الشرق الأوسط، الى جانب أنه يؤكد دوماً على ضرورة العمل من أجل الوصول لعالم خال من السلاح النووي، واعداً بأنه سيعمل من أجل أن تكون بريطانيا خالية منه. في حين يفاخر كوربين بمواقفه المناصرة لقضايا الشعب الفلسطيني وزياراته للضفة وغزة ومعاداته للسياسات الإسرائيلية جهاراً. الى جانب انتقاده اللاذع لجرائم الحرب الإسرائيلية، حيث شارك في العديد من المسيرات المؤيدة لفلسطين.
ليس من المُعتاد وصول أشخاصٍ مثل كوربين للسلطة في بريطانيا، بغض النظر عن حجم التأثير الذي لن تحدده إلا الأيام المقبلة. في حين أن مناداة أشخاصٍ بمعاداة السياسات الصهيونية والسعي للتقرب من العرب تحديداً، والعمل من أجل إحلال السلام في الشرق الأوسط، كلها أمورٌ تقول أن الأهداف قد تكون عكسيةً تماماً، لمسارٍ معروفٍ اتصفت بها بريطانيا تاريخيا، لا سيما منذ مارغريت تاتشر عرَّابة سياسات الدفاع عن الصهيونية، حتى يومنا هذا. فهل يمكن أن يكون مستقبل بريطانيا، ضحية سياساتها الداخلية والخارجية التاريخية؟