الوقت- تشهد اليوم تونس بداية جديدة وصفحة جديدة في تاريخها السياسي، بالتزامن مع بدء مراسم تنصيب الرئيس التونسي الجديد قيس سعيد ليبدأ مهامه برئاسة البلاد ابتداءً من 23/10/2019، لتخطو تونس خطوة جديدة نحو الديمقراطية، التي بدأت تجد لنفسها مكاناً في الشرق الأوسط، وبالتالي فإن وصول أمثال قيس إلى السلطة سيربك الكثير من الحكام والملوك في العالم العربي، إلا أن إثبات الديمقراطية التونسية وتعميمها يتطلب من سعيد الكثير من الجهد في المرحلة المقبلة، لأن البلاد تمر بفترة عصيبة من الناحية الاقتصادية بالإضافة إلى تحديات تشكيل الحكومة والتي تعدّ حالياً العقبة الأهم والأكبر بالنسبة للرئيس الجديد.
تشكيل الحكومة
الرئيس سعيد يعلم جيداً أن تشكيل الحكومة أمر ليس سهلاً على الإطلاق، خاصة وأن نتائج الانتخابات التشريعية التونسية لم تسفر عن فوز أي حزبٍ بالأغلبية البرلمانية لتشكيل حكومة، ما أذن بانطلاق مفاوضاتٍ شاقة بين الأحزاب السياسية، التي قدمت أغلبها جملةً من الشروط القاسية من أجل تشكيل الحكومة الجديدة.
بدوره رأى رئيس الجمهورية قيس سعيد، أن الحكومة الجديدة لا يجب أن تقوم على مجرد توزيع المناصب مثل الحكومات السابقة بل على تحمّل الأمانة والمسؤولية.
ودعا في تصريح إعلامي، الأحزاب إلى أن يكونوا في مستوى هذه المرحلة من التاريخ الذي تمر به البلاد وألّا يخيبوا آمال الشعب التونسي.
كما طالبهم بالابتعاد عن تصفية الحسابات السياسية وتجاوز الخلافات فيما بينهم، مؤكداً أن السلطة مسؤولية ثقيلة ومن يرى عكس ذلك فهو خارج التاريخ.
بكل الأحوال، ستواجه تونس اختبار تشكيل الحكومة مباشرة بعد تنصيب الرئيس الجديد وأداء اليمين الدستوري، وستعبر النخبة التونسية، برلماناً ورئيساً، عن مدى قدرتها على البحث عن المشترك، وبناء التوافقات والائتلافات الناجعة والفعالة لتخطي واقع التشظي الذي ألمّ بها، وأضعف جسمها، كما ستبين لاحقاً مدى كفاءتها في إعادة زرع الثقة في نفوس أغلبية المواطنين الذين أرهقهم ضيق العيش، وأغلقت الآفاق أمامهم، وفقدوا بالتدريج الثقة في السياسة باعتبارها فعلاً وسلوكاً بشرياً عاقلاً.
ثم إن من المتطلبات التي تنتظر الرئيس الجديد وتتحكم في قدرته على النجاح في إنجاز التغيير، مهارته في صياغة خطاب يعكس رؤية متوازنة وواقعية، وملمة بموازين القوى داخل تونس وفي محيطها الإقليمي والدولي؛ لأنه ليس بالكلمات والمفردات المدغدغة لمشاعر الناس ووجدانهم نصنع التغيير، ونرسي مؤسساته، ونوطّن ثقافته.
المستوى الداخلي
على المستوى الداخلي يتطلع التونسيون إلى تشكيل حكومة جديدة تكون بحجم آمالهم وتطلعاتهم، وفي حال تم تجاوز العقبات بالنسبة لتشكيل الحكومة، وانتخب الناس مرشحيهم في الانتخابات البرلمانية القادمة، ستتحول تونس إلى رمز للديمقراطية في العالم العربي، وستصبح مثالاً يحتذى به بالنسبة لبقية الدول.
ويأتي الملف الاقتصادي في مقدمة التحديات أيضاً التي تنتظر رئيس تونس، خاصة بعد ثماني سنوات على ثورة الياسمين، التي أصبح كثير من التونسيين بعدها يشعرون بخيبة أمل لفشل حكومات ائتلافية متعاقبة في معالجة المشكلات الاقتصادية، وفي مقدمتها البطالة المزمنة وارتفاع التضخم ومطالب المانحين الأجانب بتطبيق إجراءات خفض للإنفاق.
كما أن استشراء الفساد بتونس، في الفترة الأخيرة، يتطلب محاربة قوية وعلى عدة مستويات، وهو ما وعد به قيس خلال تصريحاته إبان حملته الانتخابية.
وضمن أبرز التحديات يأتي الملف الأمني، خاصة فيما يتعلق بملف الاغتيالات، حيث يرى تونسيون أن سعيّد سيكون من الصعب عليه فتح الملفات الأمنية، خاصة في وزارة الداخلية والمؤسسة العسكرية.
المستوى الخارجي
وليست المشكلات والخلافات الداخلية وحدها التي قد تواجه قيس، فالسياسة الخارجية ستكون أحد تحدياته، خصوصاً أنه "لا يملك أي تاريخ أو ماضٍ سياسي، ولا خبرة دبلوماسية لديه، وهو ما سيمثل تحدياً وصعوبات بالغة في تكوين وبلورة ونسج علاقات متينة بين تونس وعديد من الدول العربية والأجنبية، خاصة أن الرئيس هو المسؤول الأول عن العلاقات الخارجية".
تبقى القضية الأكبر التي أثارت لغطاً ونقاشاً كثيريْن أن قيس سعيد أعلن جهاراً أنه ضد التطبيع مع "إسرائيل"، معتبراً ذلك "خيانة وطنية"، وقد اشتغلت ماكنة "التطبيع" في الساعة التي أطلق فيها سعيد عبارته هذه، ووصلت إلى حد أن أكاديمياً وكاتباً عربياً معروفاً وقف جهاراً أيضاً ليعلن "أن مدّ اليد إلى الإنسان الإسرائيلي على أساس المساواة... قد لا تكون البتة خيانة عظمى، بل قد يرى فيه بعضهم واجباً إنسانياً تجاه المجتمع الإسرائيلي، كما تجاه المجتمع الفلسطيني"، داعياً سعيد إلى إعادة النظر في موقفه "لأن السلام القائم على صلح تاريخي بين الفلسطينيين والإسرائيليين يحفظ للجميع حقوقهم غير القابلة للتصرّف"، ولأول مرة نسمع عن حقوقٍ للإسرائيليين غير قابلة للتصرف، هكذا تتم المساواة بين الجلاد والضحية!
وسط هذا الكم من التعليقات والسجالات التي وضعت قيس سعيد بين حدّي الغموض والوضوح، يبقى رئيس تونس الجديد، في نظر مواطنيه، رجل المرحلة الذي استطاع أن يتجاوز "الدولة العميقة"، ويكسر حصار المؤسسة التقليدية الذي فرضته على الفضاء السياسي التونسي عقوداً، وأن يحمل معهم أحلامهم في التغيير والتحوّل، ويتقدّم رافعاً شعار "الشعب يريد"، وطبعاً، إن الشعب يريد منه الكثير.
في الختام.. تتطلع فئات واسعة من الشعب التونسي إلى أن يقود الرئيس الجديد البلاد نحو التغيير وتحقيق مطامح الثورة، ويأمل الشباب الذين شكلوا قاطرة "قيس سعيد" نحو الفوز الكبير والمُذهل أن يفتح لهم أفقاً لتغيير أوضاعهم، وإعادة الشعور بالأمان في نفوسهم التي أحبطتها حكومات ما بعد سقوط النظام، وعزَّ على أحزابها الوفاء لشعارات الثورة وروحها، فهل سَيقدر الرئيس الجديد على إنجاز التغيير الذي صعب على سابقيه؟ أم إن عناد الواقع، وتعقيدات معطياته، والصعوبات التي تواجه فاعليه، ستشكل عقبات حقيقية أمام رغبته الأكيدة في تجديد روح الثورة التونسية، وإعطاء معنى حقيقياً لمطالب أصحابها وتطلعاتهم؟.