الوقت- يمرّ لبنان بأزمة سياسة واقتصادية لا يمكن إنكارها، والتي من دون أدنى شك كانت موجودة منذ شهور لكن اشتدت هذه الأزمة خلال الأيام الماضية، خرجت على إثرها مظاهرات تطالب بإسقاط "النظام" إلا أنها تلاشت وخفت بريقها يوماً بعد يوم، وبين هذا وذاك تصدّر اسم أمريكا والسعودية المشهد في لبنان من خلال ممارسة ضغوط كبيرة على رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري الذي يمرّ بأسوأ أزمة منذ تسلّمه السلطة وحتى اللحظة، لكن ما المطلوب من الحريري حتى يخفّ الضغط عنه؟.
في البداية لا بدّ أن نشير إلى ان السعودية وأمريكا لا تتفقان على أسلوب التعاطي مع الحريري، فالأولى تريد عزله بالمطلق لأنها تشعر بأنه يشكّل عقبة في وجه مشاريعها ومخططاتها في لبنان، بينما الثانية تريد فقط الضغط عليه للرضوخ لمطالبها وفي نفس الوقت تخشى "الفراغ" أو قدوم شخص آخر مكانه يتعارض مع مصالحها، بالمختصر واشنطن تريد الحريري لكن بشروطها.
الأمر الذي يقلق كلّاً من الرياض وواشنطن أن الأوضاع في لبنان خرجت عن سيطرتهما وأصبحا خارج دائرة التأثير هناك، بعد أن تمكّن "حزب الله" والأحزاب التي تقف إلى جانبه من جميع الطوائف من استلام زمام المبادرة هناك، لذلك تريد واشنطن سحب هذه الورقة الرابحة من الحزب وأنصاره لمصلحة أنصارها الذين تراجعت قوتهم وشعبيتهم في لبنان.
الفوضى هي الحل
ترى واشنطن أن الفوضى هي السبيل الأمثل لخلط الأوراق وعدم السماح لأعداء أمريكا الاستفادة من الاستقرار، ولا يكون هذا الأمر ممكناً إلا عبر إثارة الفوضى والقلاقل وأفضل طريقة لهذا الأمر هي ضرب الاقتصاد الذي يعاني أساسا من الكثير من المشكلات ناهيك عن الديون التي أثقلت ظهر الحكومة ولم يعد بإمكانها الانتصاب على قدميها، ولكي تزيد واشنطن من هذه الضغوط قامت بمحاصرة رئيس الحكومة سعد الحريري اقتصادياً بمساعدة سعودية، وروّجت له فضيحة قديمة أبرزتها للإعلام لزيادة الضغط والرضوخ للشروط الأمريكية.
الشروط الأمريكية تتمثل بإجبار الحريري على الابتعاد عن محور حزب الله - ميشيل عون على اعتبار أن الاثنين يعارضان السياسة الأمريكية والتدخلات السافرة لها في لبنان، لكن في نفس الوقت لا تريد واشنطن عزل الحريري وإنما الضغط عليه فقط، وتمثّلت آخر هذه الضغوط من خلال إثارة قضية قديمة نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز"، حول المزاعم بدفع الرئيس سعد الحريري 16 مليون دولار لعارضة أزياء جنوب إفريقية بعد علاقة بينهما.
التوقيت يترك الكثير من الأسئلة، مع ما ستثيره "الفضيحة" المتجددة من انتقادات، في ظل الأزمة الاقتصادية في البلاد وغرق الحريري مالياً.
ولا شك بأن اختيار هذا التوقيت لنشر هذه القضية مرة جديدة يعدّ أمراً غير اعتيادي، والسؤال لماذا الآن؟، لطالما أن القضية تعود لقبل 6 سنوات، ناهيك عن أن وسائل إعلامية أخرى نشرت هذه القضية في 4 كانون الأول العام الماضي، فعدا عن الإحراج الشخصي الذي سيسبّبه الأمر لرئيس الحكومة، والذي من الممكن أن يدفع أي رئيس للحكومة في أي بلد في العالم إلى الاستقالة، يأتي قرار النشر في وقت يقوم فيه عدد من "أصدقاء" الحريري بإقناعه بضرورة الاستقالة وتفادي حصول الانهيار في عهده.
فالبلاد تعاني من أزمة اقتصادية ومالية ونقدية ظهرت أخيراً على شكل "شح" في الدولار في السوق، من دون أفق لحلها بشكل نهائي، والحريري نفسه يعاني من أزمة مالية خانقة دفعته أخيراً إلى إقفال تلفزيون "المستقبل" ولا يزال الموظفون من دون حقوقهم، فيما يقوم أكثر من طرف محلي ودولي بتحميله مسؤولية عدم تنفيذ الإصلاحات التي تعهّد بها للحصول على قروض مؤتمر "سيدر".
أما مطلب الاستقالة، فبات متصلاً بأجواء في البلاد عن دفع أمريكي للحريري نحو الاستقالة عبر رفع الضغط على الحكومة وعليه شخصياً، في حال لم يستجب للشروط.
من هنا، وليس دفاعاً عن الحريري، لكن يضع أكثر من طرف سياسي تفجير نيويورك تايمز للقضية من جديد، في إطار الضغط على رئيس الحكومة، وليل أمس عبّر أكثر من طرف عن مخاوفه من ضبابية المرحلة المقبلة.
أما حركة الشارع فقد خفتت أمس، بعد الأحد الملتهب قبل يومين، إلّا أنه سجل قطع لطريق صيدا ــ صور في منطقة الغازية، وتجمّعات لبعض المواطنين في الشمال.
أما في وسط بيروت، فلم تفلح الدعوات في حشد أعداد من المتظاهرين، فاكتفى عشرات المتظاهرين بالسير نحو شارع الحمرا والهتاف بإسقاط سلامة.
السعودية
الرياض لم تعد راضية عن سلوك الحريري وترى أنه أصبح عقبة كبيرة في وجه مخططاتها الرامية لمواجهة "حزب الله" والتي لا يشاركها بها الحريري، ناهيك عن فشل مخطط إجباره على الاستقالة قبل عامين، وبالتالي لم يعد مرحب به لدى الرياض، وما يؤكد ذلك أنها لم تحرك ساكناً أمام الضغوط التي يتعرّض لها الحريري، وها هي ديون "سعودي أوجيه" وفوائدها ترتفع أكثر مما يقدر الحريري على تحمّله، لم تُتح له الرياض بيع عقارات كبيرة في السعودية، لم يرفّ لها جفن وهو يقفل جريدة ثم تلفزيون "المستقبل" وقبلهما كل مؤسساته الاجتماعية، وأجبرته على الاستدانة لتمويل الانتخابات النيابية الأخيرة، ولم يعد رجال الأعمال في السعودية يتعاملون معه كما كانت الأيام الخوالي، وسفارات السعودية في الخارج التي كانت مفتوحة لوالده ليس له فيها سوى اتصالات عابر،. أما برامج دعمها المؤسسة الدينية في لبنان فلم تعد تمرّ عبره، وهي لا تتوانى عن دعم اللبنانيين المطرودين من جنته.
عملياً تسعى الرياض اليوم إلى إجبار الحريري على الاستقالة من خلال برنامج الضغوط القائم، عبر دفع المحتجّين على سياساته إلى رفع أصواتهم أكثر، وحتى الاستفادة من تحركات على الأرض لشتمه. كل ما تريده السعودية من الحريري هو الرحيل.
وكل ما تسعى إليه، هو نشوء الفراغ في لبنان، لأنها تعتقد بأنه في حال استقال الحريري، فسيكون صعباً على أحد تشكيل حكومة جديدة، فبديله لن يكون مقبولاً من حزب الله وعون، وبالتالي ستكون أغلبية السنّة خارج الحكم، وستسعى إلى ضمان موقف جنبلاط وجعجع لإفقاد الحكومة قواعد شعبية إضافية، وستدفع في اتجاه الفوضى بغية إدخال تغييرات كبيرة على الوضع السياسي