الوقت - إن اللقاء الأخير الذي جمع الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" بنظيره الروسي "فلاديمير بوتين" في العاصمة الفنلندية "هلسنكي"، يشبه إلى حد كبير ذلك اللقاء الذي جمع الرئيس "ترامب" بالزعيم الكوري "كيم جونغ أون" في جزيرة "سينتوسا" السنغافورية، حيث لم يخرج هذان اللقاءان بأي نتائج واضحة وملموسة على أرض الواقع ومن أجل تحليل الأسباب، فإنه من الضروري الإشارة إلى عدد من القضايا المتعلقة بهذا الأمر، حيث تتعلق القضية الأولى بالهيكل التنافسي الموجود في السياسة الداخلية لأمريكا، والذي خلق عقبة خطيرة أمام حرية صنع القرار السياسي في عهد الرئيس "ترامب" وفي الواقع، إنه من غير المحتمل أن يقلل وضع السياسة الداخلية في أمريكا من ضغوطه على الرئيس "ترامب"، خاصة بعدما حقق الديمقراطيون الكثير من المكاسب خلال تلك الفترة التي أتهم "روبرت مولر" فيها روسيا بالتورط المزعوم في سير عملية الانتخابات الرئاسية الأمريكية ولهذا فإن الانتخابات النصفية التي ستعقد خلال الأسابيع القادمة، ستشهد الكثير من المنافسة، خاصة وأن الحزب الديمقراطي يسعى إلى فرض ضغوطات على الرئيس "ترامب" للحصول على الكثير من المكاسب السياسية.
والقضية الأخرى، تتمثل في أنه على الرغم من مرور الكثير من الوقت منذ تولي الرئيس "ترامب" زمام الأمور في البيت الأبيض، إلا أنه إلى الآن لا يمتلك فريق السياسة الخارجية التابع لـ"ترامب" أي برنامج استراتيجي سياسي واضح وكمثال على ذلك نرى بأن هناك إجماعاً جاداً بين الخبراء الاستراتيجيين في جميع أنحاء العالم على أن نقطة البداية لتسوية العلاقات بين روسيا وأمريكا يجب أن تبدأ بحل الخلافات المتعلقة بالأسلحة الاستراتيجية، والتوازن الاستراتيجي للقوى في أوروبا، وتخفيف المخاوف الناجمة عن انهيار التوازن الاستراتيجي في العالم، لكن الرئيس "دونالد ترامب" لم تكن لديه وجهة نظر معينة حول كيفية حل هذه القضايا مع روسيا وبهذا فلقد أصبح ضعف الفريق الاستراتيجي التابع للرئيس "ترامب" واضحاً للعيان ونقطة الضعف هذه التي يعاني منها جهاز السياسة الخارجية التابع للرئيس "ترامب"، تعتبر العامل الأساسي الثاني الذي أجبر الحكومة الأمريكية على الاستمرار في لعبتها التكتيكية مع روسيا وعدم التوجه إلى تحسين العلاقات مع موسكو والبدء بإجراء تغييرات استراتيجية تساعد على حل جميع النزاعات بينها وبين موسكو ولذلك، فإن القادة الأمريكيين سيستمرون في سياساتهم المناوئة لروسيا، على الرغم من محاولة حكومة واشنطن اتخاذ تدابير استراتيجية لتحسين العلاقات الثنائية مع روسيا.
وفي سياق آخر كشفت الحرب في أوكرانيا والاصطفافات المتناقضة بين موال للغرب وداع إلى التمسك بروسيا كحليف استراتيجي، عمق الهوة بين موسكو وواشنطن وهذا الأمر عجّل من احتدام المواجهة على مستويات مختلفة، ففرضت واشنطن عقوبات اقتصادية ردّت عليها روسيا بخطوات مماثلة، ونتيجة لذلك فإن العاملين المتمثلين في "التنافس بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري" و"الضعف الحالي لفريق السياسة الخارجية الأمريكية وعدم وجود فكرة واضحة لتسوية النزاعات مع روسيا"، قد أثرا على نمط السياسة الخارجية الأمريكية تجاه روسيا، ما يجعل من المستحيل تخيّل مستقبل واضح للعلاقات بين موسكو وواشنطن ولكن فيما يتعلق بدور روسيا في حل هذه النزاعات القائمة بين البلدين، يجب القول أنه بالنظر إلى الوضع الحالي، يتبين لنا بأن جميع الأدوات التي تستطيع أن تُحدث تغييراً جاداً في هذه العلاقات كلها في أيدي أمريكا، ولهذا فإن موسكو لا تستطيع القيام بأي دور جدي في هذا الصدد.
إن روسيا لديها مجموعة من المبادئ الثابتة والاعتبارات الجادة في سياستها الخارجية، ولا يبدو أنها سوف تتراجع عن هذه المبادئ، فعلى سبيل المثال، لم تتلقَ روسيا أي تجاوب غربي لخفض مخاوفها بشأن قضايا مثل التسلح الفضائي والتوازن الاستراتيجي للأسلحة في أوروبا الشرقية، ولهذا فإنه من غير المرجّح أن نرى أي تعامل خاص من جانب الروس لحل نزاعاتها مع أمريكا، ولذلك فإن موسكو ليست في الوقت الحالي في وضع تقدر فيه من الناحية الهيكلية على أن تقوم بأي مبادرة لتغيير طبيعة علاقاتها السياسية مع واشنطن، وبدلاً من ذلك، فإن موسكو تحاول تأمين الحد الأدنى من مصالحها الوطنية من خلال المناورات السياسية – العسكرية التي تقوم بها في سوريا، حيث نرى الجانب الروسي هو صاحب اليد العليا دون أدنى شك، فعبر الوجود الروسي العسكري في سوريا عادت موسكو كمركز قوة في الشرق الأوسط وتوارت أمريكا بنوع واضح جداً، ومن هنا باتت روسيا صاحبة الكلمة العليا في ملف قوي وحساس وفي المقابل نجد واشنطن تمارس ضغوطات واضحة على روسيا، بعضها قريب جداً من حدودها، كما الحال في أوكرانيا، فأمريكا وحتى الساعة ترفض الاعتراف بضم روسيا شبه جزيرة القرم إليها، وتستغل هذه القضية للضغط على الجانب الروسي أدبياً وسياسياً إلى جانب الضغوطات والعقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية، لذلك في الوضع الحالي تفتقر روسيا إلى القدرة على أخذ زمام المبادرة لتحسين وضع علاقتها مع أمريكا، وبالنظر إلى كل هذه العوامل، فإنه لا يمكننا أن نتوقع حدوث تغيير جدي في العلاقات بين روسيا وأمريكا في المستقبل القريب.