وبعد 17 يوماً من المفاوضات الشاقّة في فيينا، أعلنت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيدريكا موغريني توقيع اتفاق بين إيران والدول الست الكبرى "يفتح صفحة جديدة في علاقاتنا لبناء الثقة وتعزيز السلام العالمي ويُثبت أن الدبلوماسية والتعاون قادران على إزالة عقود من التوتر ".
فالإتفاق "الإنجاز" الذي أُعلن تحت الخطوط الحمر التي رسمها المهندس الإستراتيجي للإتفاق القائد الأعلى للثورة الإسلامية السيد علي الخامنئي، إعتبره الإسرائيليون أنه "يوم أسود على إسرائيل". وقال موقع صحيفة "يديعوت احرونوت" عن الاتفاق "انه انتصار كبير للايرانيين وضربة قوية لرئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي إعتبر أن الاتفاق النووي مع إيران هو خطأ سيء وله أبعاد تاريخية .
فما هي المكاسب والأبعاد الإستراتيجية محلياً وإقليمياً ودولياً لهذا الإتفاق ؟ وما هي إنعكاساته على قضايا المنطقة؟ وهل سيرضخ أعداء إيران ويسلمون للقوة الأولى في المنطقة؟ أم أنهم أعدوا العدة للإنقضاض على الإتفاق والتصعيد لكي يحجزوا مكاناً على طاولة المفاوضات حول القضايا المختلفة؟ خاصةً وأنّ الإتفاق أُعلن مترافقاً مع إنجازات وتحديات ينجزها محور المقاومة في الأنبار وتدمر والزبداني. وقد ساهمت هذه الإنجازات في دفع المفاوضات والشروط لمصلحة الدبلوماسية الإيرانية.
مهما كان الذي يُعد فما قبل الإتفاق النووي ليس كما بعده هذا ما يُؤكده المراقبون. فالدول الكبرى أيقنت أن الدولة الإسلامية الإيرانية هي قوة إقليمية ودولية لا يمكن الإستهانة بها بل لا يمكن الوصول إلى حلول لقضايا المنطقة إلا بالتفاهم والتنسيق معها.
فوفق أهم محاور المفاوضات النوویة التي جرت قراءتها في المرکز الاعلامي للامم المتحدة في فیینا من قبل وزیر الخارجیة الإيراني محمد جواد ظریف ومنسقة السیاسة الخارجیة بالاتحاد الاوروبي فدریکا موغریني، إعترفت القوی الکبری رسمیاً بالبرنامج النووي السلمي للجمهوریة الاسلامیة الایرانیة وإحترمت ممارسة الشعب الایراني لحقوقه النوویة في اطار المعاهدات الدولیة . كما ستلغى قرارات الحظر الظالمة المفروضة من قبل مجلس الامن الدولي، والتي تشمل جمیع اجراءات الحظر الاقتصادیة والمالیة المفروضة علی إيران والتي ستلغی دفعة واحدة في اطار یتم التفاهم بشأنه وعبر قرار جديد بحسب ما عبر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف.
فعلى مستوى الإقتصاد الإيراني ستواصل جمیع المنشآت والمراکز النوویة الایرانیة أنشطتها. وخلافاً للمطالب الابتدائیة للطرف الاخر، لن یتم ازالة او تجمید أي منه، وسیتم الحفاظ علی البنیة النوویة الایرانیة ولن یزول أي جهاز للطرد المرکزي وستستمر عملیة الابحاث والتطویر بشأن جمیع اجهزة الطرد المرکزي الاساسیة والمتطورة لایران ومن ضمنها IR-4 ، IR-5 ،IR-6 وIR-8 . كما ستتمکن إیران من دخول الأسواق العالمیة لبیع إنتاجها الاستراتیجي من الماء الثقیل والیورانیوم المخصب مع رفع الحظر عن القیود للتعاون الاقصادي مع ایران في جمیع المجالات کالاستثمار في صناعات النفط والغاز والکیمیاویات. فما حدث اليوم يشبه ما حدث في الصين في السنوات الماضية بعد رفع العقوبات عنها حيث ستشهد إيران فورة إقتصادية ويصعد نجمها على المستويات كافة ما يسمح لها من دخول مجالات التجارة والتکنولوجیا والطاقة والمال حيث سیتم الافراج عن عشرات ملیارات الدولارات من العوائد الایرانیة التي کانت محتجزة في خارج البلاد بسبب العقوبات الظالمة.
وهو ما سيدفع قطاعات اقتصادية وتجارية في آسيا وأوروبا وأمريکا للترويج لبرامج استثمارية في القطاعات الإيرانية المختلفة، ويرفع حظر او قیود التعاون الاقتصادي مع ایران في جمیع المجالات بما فیها الاستثمارات في صناعات النفط والبتروکیماویات وسائر المجالات، وفتح المجال أمام عودة إيران إلى الإقليم وممارسة دورها كقوة إقليمية عظمى، واعتبار إيران دولة وأمة وليست قضية كما كان الحال في السنوات السابقة منذ 1979 حتى الآن، وهو ما يفتح الباب للتداعيات الاستراتيجية لهذا الاتفاق على اعتبار أنه يمثل بداية واضحة لنوع من الاختراق في علاقات إيران مع الغرب وأمريكا بصورة يمكن أن تؤثر على الأوضاع السياسية في المنطقة العربية والقضايا المثارة بداخله .
أما عسكرياً فسیتم الغاء حظر التسلح علی ایران وتحل محله بعض القیود بحیث تتوفر امکانیة استیراد وتصدیر بعض السلع الدفاعیة في بعض الحالات. وهذه القیود ستزول بشکل کامل بعد خمس سنوات. وسیتحول الزام ایران بحظر النشاطات الصاروخیة بما فیها الصواریخ البالستیة الی قیود في مجال الصواریخ المصممة للاسلحة النوویة والتي لم ولن تکون الجمهوریة الاسلامیة الایرانیة تتابعها.
فبين كلام الرئيس الإيراني والرئيس الأمريكي بعد إعلان الإتفاق يستشف المراقب أنّ الأمريكيين والغرب يسعون للتواصل أكثر مع إيران لحل القضايا العالقة ومفردة التعاون تدل على توحيد الجهود للتعاون حول ذلك.
ويرى محللون أن تأثيرات الاتفاق النووي الإيراني الغربي على الدول الخليجية تتمثل في تركيز الاتفاق على المصالح الأمريكية دون مراعاة هواجس هذه الدول، لاسيما فيما يتعلق بتعاظم نفوذ إيران، أي أن ثمة تخوفات خليجية بأن يكون هذا الاتفاق غير قاصر على البرنامج النووي الإيراني، بل يشمل ملفات إقليمية تعتبرها إحدى الأوراق الرئيسية سواء في سوريا أو لبنان أو العراق أو اليمن تم التباحث بشأنها في المباحثات السرية، بما يمنح إيران أدواراً متزايدة في الملفات الإقليمية، ويمنح الاتفاق طهران هامشاً أكبر للمناورة، وهو ما يقلق الكيان الإسرائيلي يوماً بعد يوم.
لقد نجحت إيران في نهاية المطاف في قلب المفاوضات على رأسها مستخدمة في ذلك الدهاء الدبلوماسي تارة ومتحدية علنا القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي تارة أخرى. إنها مرحلة تحولات في العلاقات الدولية يشهدها العالم حيث انضمت قوّة جديدة إلى النادي الدولي، والجديد بهذا أنّ هذه القوة هي دولة إسلامية أعلنها الإمام الخميني الراحل ويقودها الإمام الخامنئي على رأس محور المقاومة الذي سيصبح بعد الإتفاق في موقع أقوى على الساحة الإقليمية، مما سيكون له التأثير المهم والإنعكاس على قضايا المنطقة. فالتاريخ سيشهد أنّ هذا المحور هو الذي سيرسم خارطة المنطقة ولن يكون لأمريكا وأدواتها الإرهابية فيه موطئ قدم في المستقبل.