الوقت- بعد حوالي العشرين شهرا من المفاوضات الشاقة حول الملف النووي بين ايران و الدول الست، لم تعد فكرة التوصل الى اتفاق نهائي و التوقيع عليه صعبة الهضم خصوصا بعد التصريحات الايجابية التي صدرت على لسان الطرفين، و لكن هذا لا يعني أن خيار التراجع و نسف الاتفاق من أساسه لم يعد مطروحا، فالطرف الايراني ما زال محافظا على النفس الطويل الذي بدأ به المفاوضات، كما تؤكد الأوساط الايرانية بأن عودة الفريق المفاوض بحقائب فارغة من أي اتفاق لن يكون خسارة لن تعوض، بل لن يمر دون ايجابيات توظفها الحكومة الايرانية لمصلحتها و اظهار العداء الأمريكي لايران حكومة و شعبا و نهجا.
بعد أن لمست أمريكا و من ورائها حلفاؤها الغربيون اصرار ايران على المضي قدما في برنامجها النووي، و بعد أن فشلت لغة التهديد بالحرب، و بعد الاقرار بعدم جدوى العقوبات الاقتصادية التي وظفتها الحكومة الايرانية لمصلحتها ببناء اقتصاد وطني متين، عندها انتقلت تلك الدول الى الخطة البديلة و دعت ايران الى الجلوس معها على طاولة المفاوضات بهدف الوصول الى اتفاق ينهي الخلاف معها حول برنامجها النووي بشرط التأكد من سلميته. وافقت ايران على بدء المفاوضات بعد أن اشترطت بدورها رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها و عدم ايقاف برنامجها النووي للأغراض السلمية عن عمله. و بعد أشهر طويلة من بدء المفاوضات أصبحت مألوفة للجميع تلك الصلابة التي تبديها الحكومة الأمريكية أمام وسائل الاعلام حول عدم استعجالها للتوقيع على الاتفاق و تلميحها بالانسحاب من المفاوضات في حال عدم تقديم تنازلات من الطرف الايراني، الا أنه و في حسابات السياسة التي تقرأها الادارة الأمريكية جيدا، فضلت ادارة الرئيس باراك أوباما تقديم التنازلات في سبيل اتمام الاتفاق الذي ان لم يتم التوقيع عليه، ستدفع أمريكا ثمنا باهظا يمكن تلخيصه على النحو التالي:
أولا- ان الاتفاق مع ايران حول برنامجها النووي بات يعتبر حلا أخيرا بعد استنفاذ الحلول عبر تطبيق عقوبات اقتصادية لم تؤتي أكلها، و بعد رفع الخيار العسكري عن الطاولة لما له من تكاليف لن تستطيع لاأمريكا ولااسرائيل على دفع فواتيرها. لذا ففي حال عدم التوقيع على الاتفاق الآن فان ايران سوف تمضي ببرنامجها كما تريد بنسبة تخصيب تحددها هي و عدد أجهزة طرد غير محدودة.
ثانيا- شارفت ولاية الرئيس باراك أوباما على الانتهاء، دون تحقيق انجاز يذكر على صعيد السياسة الخارجية التي أولا بها أوباما أهمية كبرى ابان انتخابه و أثناء حملته الانتخابية، فلا النظام في سوريا تغير و لاعملية السلام بين فلسطين و الكيان الغاصب استؤنفت، و زادت عدائية شعوب المنطقة لأمريكا حيث باتت ترى فيها سبب المشاكل و الحروب القائمة. لذا فان عدم التوقيع على الاتفاق النووي مع ايران سيعدم فرصة الحزب الديمقراطي في الفوز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، بعد أن مني بهزيمة ساحقة في الانتخابات النصفية أمام خصمه الجمهوري.
ثالثا- عدم التوقيع على الاتفاق النووي سيزيد من التفاف الشعب الايراني حول القيادة التي لطالما دعت الى عدم التعويل على المفاوضات مع الغرب و شجعت على تعزيز الاقتصاد المقاوم الذي ساعد الاقتصاد الايراني على الصمود و التماشي مع العقوبات والحصارالاقتصادي. و سيعطيهم نفسا جديدا لمواجهة العقوبات التي فرضتها أمريكا عليهم، كما ستتركز صورة أمريكا على أنها العدو الأول لايران دولة و شعبا و نظاما، لذا فان الشعب الايراني الذي مازال يهتف "الموت لأمريكا" منذ انتصار الثورة الاسلامية و سقوط نظام الشاه، سيبقى يردد الموت لأمريكا في كل مناسبة.
رابعا- ان صورة أمريكا أمام الدول الأوروبية لن تبقى كما هي بعد الانسحاب من الاتفاق و خصوصا بعد أن جهزت تلك الدول شركائها و مستثمريها و وعدت نفسها بالاستثمارات و بدأت تحجز لنفسها مقاعد في الأسواق الايرانية، و أن صورة أمريكا التي لوثتها قضية التجسس الأخيرة على الدول الأوروبية ستزداد سوادا اذا انسحبت أمريكا من الاتفاق.
من
الطبيعي أن يحمل الاتفاق النووي لايران نسائم باردة تنعش اقتصادها بعد رفع
الحصار و الغاء العقوبات الذي سيتبعه حكما تدفق الاستثمارات الخارجية في
مجالات الصناعة و النفط و غيرها، الا أن عدم توقيع الاتفاق لن يغير في
الأمر شيئا فالاقتصاد الايراني أصبح أكثر صلابة أمام العقوبات التي تكيف
معها على مدى السنوات الماضية، و المشروع النووي سيبقى قائما فالخيار
العسكري أصبح ضربا من الجنون، و ستحصد أمريكا خيبة جديدة، حالها كحال من
بلع السيف، خيارها الوحيد هو سلوك خيار يكون أقل تكلفة عليها.