الوقت - منذ دخوله البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير 2017 سعى الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" لترجمة شعاره الانتخابي "أمريكا أولاً" على أرض الواقع من خلال انتهاج سياسة تعتمد على ركيزتين أساسيتين:
الأولى أمنية عبر السعي لتعزيز وجود القوات العسكرية الأمريكية في مناطق مختلفة من العالم وفي مقدمتها الشرق الأوسط، والثانية اقتصادية وذلك من خلال فرض رسوم جمركية عالية على البضائع الخارجية خصوصاً المستوردة من الصين ودول الاتحاد الأوروبي وكندا وبلدان أخرى.
في هذا المقال سيتم التركيز على الجانب التجاري في استراتيجية ترامب والتي وصفها الكثير من المراقبين بأنها حرب اقتصادية يشنّها الرئيس الأمريكي على دول أخرى بهدف إضعافها من جانب وتقوية الاقتصاد الأمريكي من جانب آخر.
وشملت خطوات ترامب فرض رسوم جمركية بنسبة 25 بالمئة على 800 نوع من البضائع الصينية التي تصل قيمتها الاجمالية إلى 50 مليار دولار وفي مقدمتها الفولاذ والألمنيوم وأدوات صناعة السيارات.
وتسعى إدارة ترامب إلى مواجهة العجز التجاري الأمريكي مع الصين الذي وصل في 2017 إلى 375,2 مليار دولار، ولهذا طالب الرئيس الأمريكي العملاق الآسيوي بتقليص فائضه التجاري مع واشنطن بما لا يقل عن مئة مليار دولار.
وبدأ ترامب بتنفيذ وعيده بفرضه رسوماً بنسبة 25% على واردات الصلب و10% على واردات الألمنيوم، وهو إجراء لم ينحصر بالصين بل شمل أغلبية دول العالم.
وتشمل اللائحة أيضاً منتجات من قطاعات مختلفة بما فيها تقنيات الطيران وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والروبوتات والآلات.
وقوبلت إجراءات ترامب بانتقادات واسعة وصلت إلى حدّ تقديم شكاوى من قبل الكثير من الدول ضد أمريكا لدى منظمة التجارة العالمية، ومن بين الدول التي تقدّمت بشكاوى بهذا الخصوص يمكن الإشارة إلى كل من الهند والصين وتركيا واليابان وروسيا.
بالإضافة إلى ذلك قامت الصين بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 بالمئة أيضاً على 659 نوعاً من البضائع الأمريكية والتي تصل قيمتها الإجمالية إلى 50 مليار دولار.
ومن المتوقع أن تتخذ العديد من الدول الغربية إجراءات مماثلة ضد أمريكا من بينها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وكندا.
من جانب آخر عمدت روسيا قبل مدة إلى سحب ما يعادل 47.5 مليار دولار من سندات استثماراتها في أمريكا، وهذا الرقم يعادل تقريباً نصف قيمة سندات الاستثمار الروسية في أمريكا التي تبلغ 96.1 مليار دولار.
من جهة أخرى أدّت التراشقات الكلامية بين ترامب ورئيس الوزراء الكندي "جاستن ترودو" إلى استعار الحرب الاقتصادية بين البلدين.
ووصف ترودو في مؤتمر صحفي عقب قمة مجموعة السبع الكبرى تذرّع ترامب بهواجس الأمن القومي لفرض رسوم على الصلب والألمنيوم بأنه مهين للمحاربين الكنديين القدامى الذين قاتلوا إلى جانب الحلفاء الأمريكيين.
وبعد صعوبات كثيرة شهدتها المفاوضات بين أمريكا والمكسيك وكندا لتحديث اتفاقية التجارة الحرة المعروفة باسم "نافتا"، بسبب قطاع السيارات، تأزمت الأوضاع بين الشركاء الثلاثة نتيجة فرض الرسوم على الصلب والألمنيوم، إذ قررت المكسيك بدورها فرض رسوم جمركية مساوية على سلع أمريكية، بينها بعض منتجات الصلب والأجبان والفاكهة.
وفي أعقاب قرار فرض الرسوم على الصلب والألمنيوم، أعلنت دول الاتحاد الأوروبي موافقتها على عدد من الإجراءات الجمركية المضادة بشأن سلع أمريكية مختلفة بما قيمته 2.8 مليار يورو.
الرد بإجراءات مماثلة شمل اليابان أيضاً، التي أبلغت منظمة التجارة العالمية، اتخاذ تدابير مساوية لما اتخذته واشنطن، وفرض رسوم جمركية بقيمة 50 مليار "ين"، أي ما يعادل 446 مليون دولار.
ويعتقد المراقبون أن ترامب وعلى الرغم من الخسائر الفادحة التي تحمّلها ويتحمّلها الاقتصاد الأمريكي بسبب سياسته التجارية مع الدول الأخرى مازال يصرّ على تنفيذ هذه السياسة للإيحاء بأنه قادر على إرغام هذه الدول وجعلها تنصاع لإرادته في نهاية المطاف وذلك بهدف الترويج لنفسه والتمهيد للحصول على ولاية رئاسية ثانية في الانتخابات التي ستجري في أمريكا عام 2020.
ويرى المتابعون والخبراء بالشأن الاقتصادي إن سياسة ترامب التجارية مع الدول الأخرى ستمنى بالفشل وستعود على أمريكا بأضرار هائلة خصوصاً في حال قررت الدول الصناعية الأخرى كروسيا والصين تشكيل اتحاد اقتصادي وتجاري، والذي من الممكن أن يتمدد ليشمل بلداناً أوروبية قوية كألمانيا وفرنسا، وهذا الأمر من شأنه أن يضعف أمريكا أيضاً في باقي المجالات السياسية والأمنية والعسكرية ويزعزع مكانتها الدولية في الكثير من مناطق العالم.
وفي وقت سابق اعترف ترامب بخسارة الحرب التجارية مع الصين منذ سنوات، مشيراً إلى وجود عجز تجاري في أمريكا قيمته 500 مليار دولار سنوياً.
وتجدر الإشارة إلى أن ترامب كان قد أعلن أيضاً بأنه يسعى للضغط على العديد من الدول المصدّرة للنفط الأعضاء في منظمة "أوبك" لإرغامها على زيادة صادراتها من النفط بهدف خفض الأسعار وإتاحة المجال للشركات الأمريكية العملاقة بتصدير كميات أكبر من النفط وذلك في إطار سياسته الرامية إلى إضعاف "أوبك" من جهة، وتقوية الاقتصاد الأمريكي من جهة أخرى علّه يتمكن من خلال ذلك تقليص الآثار السلبية الناجمة عن البطالة المتفشية في المجتمع الأمريكي، إلّا أن معظم المحللين يعتقدون بأن هذه السياسة ستفشل أيضاً نتيجة إصرار العديد من دول "أوبك" على حفظ سقف الإنتاج بما يضمن الحفاظ على الأسعار عند مستوى مقبول خصوصاً بعد أن عانت الكثير من هذه الدول من انخفاض الأسعار طوال السنوات الثلاثة الماضية بسبب إغراق السوق بكميات هائلة من الخام من قبل دول أخرى داخل "أوبك" في مقدمتها السعودية التي تسعى لتوجيه ضربة اقتصادية لإيران في سياق محاولاتها للتضيق على طهران التي نجحت في إقناع العالم بحقها في امتلاك التقنية النووية السلمية وتوصلت إلى اتفاق شامل مع الدول الكبرى بهذا الخصوص والذي ضمن لها رفع الحظر المفروض عليها بشكل كامل إلّا أن انسحاب أمريكا غير المبرر من هذا الاتفاق في الثامن من مايو/أيار الماضي حال دون تنفيذ بنود هذا الاتفاق حتى الآن.