الوقت - لم يكشف عن سرٍ خفي، ولم تكن أول تهمة توجه الى كردستان العراق، هي تلك التي اطلقها مؤخرا رجب طيب اردوغان الرئيس التركي، بحق استفتاء الانفصال والتي قال فيها: "التخطيط لهذا المشروع يجري بدعم اسرائيل وان الاستفتاء مشروع عدائي خارجي يقف ورائه مسؤول فرنسي وآخر اسرائيلي".
لكن هذه التصريحات وعندما تأتي من قبل رجل كأردوغان الذي يعرف خبايا تل أبيب عن قرب وعقلية المشروع الصهيوني بدقة، فهنا للملام ثقله .!
ورغم ان الرئيس التركي ذو العقلية التجارية يعرف ان كلاما كهذا سيفتح عليه جملة من المعوقات الاقتصادية في الشرق الاوسط ورزمة من الضغوطات على تحركات صفقاته، لكنه بدا مصنفا أولوياته وفق قاعدة المصالح العليا.
اسرائيل هي الوحيدة دوليا التي باركت الاستفتاء علنا، وشوهدت اعلامها ترفرف في سماء كردستان منذ اسابيع، الامر الذي اثارة حيرة لدى معظم الشعوب العربية والمسلمة لكنه لم يخرج من دائرة التشكيك، ولم يرقى مرحلة الدليل القاطع.!
بيد أن حضور وجه طالما لقبه الفلاسفة الفرنسيون الكبار بـ"الخديعة الثقافية" ولقبه الليبيون بـ"مهندس الحرب على ليبيا" الاسرائيلي برنار هنري ليفي في أربيل وبالتزامن يوم اقتراع الاستفتاء، فأن الامر لا يخلو من مكيدة.!
تاريخ "ليفي" يفي بنتائج جملة من التحليلات، ويكفي في سرد واقعه وواقع كل مشروع يقف ورائه بما لعبه من دور أينما حل ونزل صاغ مشروعا عنصريا خدمة للصهيونية هدما لكل معادٍ لها، هذا ما يرويه في كتابه الاخير "الحرب بدون أن نحبها"، وللرجل سلسلة أدوار في صناعة الاحداث والمتغيرات وخلق الفتن في الشرق الاوسط.!
لقطات تواجده في الاقليم أثارت ضجة عارمة في مواقع التواصل الاجتماعي لدى العرب والكرد في العراق، من المعارضين والمؤيدين للاستفتاء على حد سواء.!
وبدأت التفسيرات تطفو على سطح الساحة بشأن الدوافع وراء دعم اسرائيل لانفصال كردستان، وحجم المصالح السياسية والاقتصادية التي ستجنيها من مشروع الانقسام هذا ؟!
لا شك ولا ريب في أن الهدف من استراتيجية الكيان الصهيوني في علاقاته المتينة بكردستان العراق يتجاوز بكثير مسألة الحرب على المجموعات الارهابية التي يوظفها البعض خداعا كشماعة لتبرير الشراكة بين الطرفين، انما في واقع الحال هي مشروع يهدف بشكل خاص الى توظيف العلاقات في تحسين بيئتها الاقليمية القائمة على حرصها في تعزيز القدرات الاقتصادية والعسكرية للاقليم انطلاقا من تمكين أربيل على تأمين الشروط والظروف على اعلان الاستقلال الذي يخضع لغايات استراتيجية لتل أبيب.!
وتأكيدا على ذلك، كشفت صحيفة "معارف" الاسرائيلية في التاسع من مايو/ أيار2015 النقاب عن أن حكومة الاقليم قد أرسلت مستشارها السياسي الدكتور ناهرو زاغروس، للتباحث مع كبار المسؤولين الصهاينة حول سبل الدعم السياسي الذي يمكن ان تقدمه اسرائيل للتحرك الكردي الهادف لتأمين اعتراف دولي بالاستقلال عن العراق.
يبدو جليا من أن العقل الاسرائيلي قائم على انشاء دولة كردية في شمال العراق تكون نواة دولة كردية أكبر، يمكن لها ان تضم فيما بعد مناطق التواجد الكردي في محيطها الجغرافي من أكراد دول الجوار.
من هنا تعول اسرائيل حسب معظم التكهنات على دولة كردية في منطقة استراتيجية بزيٍ كردي وبمنطق صهيوني، يمكن لها ان ترتبط بشراكة استراتيجية مع تل أبيب، إن لم تكن عمقا رصينا لها، من شأنها تقليص عزلتها وتزيد من هامش المناورة أمامها في التأثير على المشهد الاقليمي.
من جانب آخر، هي محاولة لصناعة جبهة مستقلة عن نفوذ محيطها الاقليمي، خاصة وانها تتوسط تركيا وإيران، لذا يجد البعض أن أحد أسباب اندفاع الاسرائيلين للمجاهرة بفكرة اقامة دولة كردية هو تقديرهم بأن دولة كهذه ستتمكن من انشاء منطقة من نفوذ اسرائيلي وسط مثلث ايران تركيا والعراق.
منطق ليس بغريب، اذا ما عدنا الى ولادة العلاقة الاسرائيلية الكردية في ستينيات القرن الماضي، علاقة ولدت بهدف تحقيق استراتيجية "حلف الاطراف" كما سمي آنذاك، الحلف الذي اعتمده رئيس الوزراء الاسرائيلي الاول "ديفد بن غوريون" بهدف توثيق علاقات اسرائيل مع أقليات تخوض نزاعات وحروب قومية أو دينية مع دول عربية، من شأنها تحجيم الصراع مع تل أبيي، وحرف الانظار عدائها ومخططاتها.
ومن أبرز نتاجات "حلف الاطراف" هو فتح الابواب على مصراعيها ازاء الكرد، وما ان أصبح العراق هشّا في تنفيذ مخطط كهذا، حتى بدأ العمل بمشروع صناعة المجموعات الارهابية وايجادهم كمحطة أولى لخلق نزاع فتنة في الداخل العراقي، وتحقيق مآرب اقتصادية منها، ونظرا لتخوف اسرائيل من دور العراق المستقبلي اذا أعاد هيبته، فقد حرصت انشاء هذه العلاقات مع الكرد سرا، وتوسيعها من بعد سقوط النظام البائد.
وهكذا ستتمد اسرائيل في بقاع منطقتنا، في ظل غياب استراتيجية عربية موحدة، وستبقى تل أبيب تسرح وتمرح وتعمل على توظيف متغيرات اقليمية واللعب على وتر صراع الهويات والقوميات المحتدم، واحداث المزيد من الانشقاقات والاختراقات بما يخدم مصالح الموساد.!