الوقت- في الأيام الأخيرة، امتلأت الساحة الإعلامية، من شبكات التلفزيون إلى مواقع التواصل الاجتماعي، بصور فرح سكان غزة بوقف الحرب، وخاصةً بوصول المساعدات الإنسانية.
تُبث على نطاق واسع مقاطع فيديو تُظهر وصول شاحنات ضخمة من الغذاء والدواء وتوزيعها على السكان المنكوبين، ويشعر مشاهدو هذه الصور بالرضا عن انتهاء معاناة مئات الآلاف من النساء والأطفال والمدنيين في غزة.
إلا أن واقع غزة بعد الحرب أمر مختلف، ولا ينبغي فهمه من خلال عدسة الإعلام فقط، وخاصة الإعلام الغربي والعربي.
رغم الآمال الكبيرة التي أثارها مؤتمر شرم الشيخ للسلام، حيث أعلن قادة الدول المشاركة فيه عن بدء مرحلة جديدة من إعادة إعمار غزة بدعم عربي ودولي واسع، إلا أن الواقع على الأرض يبدو أكثر قتامة وتعقيدًا، فبينما تتحدث التصريحات الرسمية عن برامج ومؤتمرات ومساعدات قادمة، فإن عامين من القتال العنيف قد خلقا مشاهد كارثية وأبعادًا مجهولة، يبدو من المستحيل وصفها بدقة حتى في بعض التقارير.
تتحدث السلطات المحلية في غزة عن ضآلة المساعدات (حتى مع دخول 600 شاحنة نص عليها الاتفاق إلى غزة يوميًا دون أي تخفيض أو تقليص) مقارنة باحتياجات السكان والرعاية النسبية لمئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين.
ووفقًا للمهندس عاصم النبية، المتحدث الرسمي باسم بلدية غزة، فإن المدينة تواجه دمارًا "كبيرًا جدًا" نتيجة القصف الإسرائيلي في الأسابيع الأخيرة، والذي استخدم فيه المدرعات المحملة بالمتفجرات ضد منازل المدنيين والبنية التحتية، مما تسبب في انهيار شبكات الطرق والمياه والصرف الصحي.
أوضح النبية أن بلديات غزة تواجه اليوم تحديًا غير مسبوق. وكشف مسؤول فلسطيني آخر من بلدية غزة أن إسرائيل دمرت نحو 95% من الشاحنات والمعدات الثقيلة في قطاع غزة، مؤكدًا أن 193 ألف مبنى دُمر بالكامل نتيجة الحرب، وأن 16 مستشفى تعمل الآن بطاقتها المحدودة.
وأشار المسؤول إلى أن نحو 50 مليون طن من ركام المباني السكنية والمنشآت الصناعية تراكمت في شوارع مدينة غزة وحدها.
وأشار إلى أن نحو 90% من شوارع المركز الإداري لقطاع غزة دُمر، مؤكدًا أن الأولوية الآن هي تنظيف شوارع المدينة من الأنقاض والقمامة لبدء إعادة الإعمار.
وأشار إلى أن البلدية قدمت قائمة مفصلة باحتياجاتها العاجلة للمنظمات الدولية والأمم المتحدة، بما في ذلك المعدات الثقيلة والوقود وقطع الغيار والمولدات الكهربائية وشبكات المياه الجديدة.
وحذر من أن عدم تلبية هذه الاحتياجات لن يُمكّن البلديات من تلبية الحد الأدنى من احتياجات المواطنين، رغم محدودية الإمكانيات، بدأت فرق البلدية بإعادة فتح الشوارع المتضررة وتسهيل وصول السكان إلى منازلهم، إلا أنه صرّح بأن هذه الجهود "لن تدوم طويلًا ما لم تتدخل المؤسسات الدولية بشكل عاجل لتخفيف معاناة سكان غزة".
ووفقًا لتقديرات البنك الدولي والأمم المتحدة، قُدِّر إجمالي الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية في غزة بأكثر من 18 مليار دولار بحلول أوائل عام 2024، وقد ازدادت الآن، ويأتي ذلك في الوقت الذي ارتفعت فيه التكلفة الإجمالية المقدرة لإعادة الإعمار على مدى عشر سنوات إلى 70 مليار دولار، منها 20 مليار دولار في السنوات الثلاث الأولى وحدها لتغطية تكاليف الكهرباء والمياه والإسكان والخدمات الأساسية.
وفي تقرير صدر أمس، قدّر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) تكلفة إعادة إعمار غزة بحوالي 70 مليار دولار.
وأعرب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يوم الثلاثاء عن أمله في وجود "مؤشرات جيدة جدًا على تمويل إعادة إعمار غزة من الدول العربية والشركاء الأوروبيين والولايات المتحدة".
قال جاك سيلييه، المسؤول في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، في مؤتمر صحفي بجنيف، إن المرحلة المقبلة ستشهد جهودًا مكثفة لحشد التمويل الدولي وإطلاق برامج إعادة الإعمار، مؤكدًا أن أولوية الدول المانحة ووكالات الأمم المتحدة ستكون ضمان إعادة إعمار غزة بشكل مستدام وآمن.
وأشار إلى أن حجم الدمار يتطلب خطة شاملة تبدأ بجمع الأنقاض وإعادة بناء البنية التحتية الأساسية، بما في ذلك المدارس والمستشفيات وشبكات المياه والكهرباء، بهدف تسريع عودة الحياة الطبيعية إلى قطاع غزة.
وفي هذا السياق، استعرض المهندس كريم الكسار، المنسق العام للجنة إعادة إعمار غزة، لوسائل الإعلام تفاصيل مراحل إعادة إعمار غزة في الخطة المصرية، وأوضح الكسار في برنامج "الكلمة الأخيرة" على قناة ON TV أن المرحلة الأولى من الخطة تركز على جهود إعادة الإعمار الفورية، وستستمر ستة أشهر، وبميزانية تزيد عن ثلاثة مليارات دولار.
وأوضح الكسار أن هذه المرحلة تتضمن بالأساس جمع الأنقاض المتراكمة نتيجة الدمار الواسع الذي لحق بالبنية التحتية في مختلف أنحاء قطاع غزة،
وفيما يتعلق بالمرحلة الثانية من الخطة، أوضح الكسار أنها أوسع وأطول، وتستغرق قرابة عامين، وتتطلب تمويلًا يصل إلى عشرين مليار دولار، وتهدف إجراءات هذا الجزء من المشروع إلى توفير مأوى فوري للمواطنين الذين فقدوا منازلهم، وسيتم توفير 200 ألف وحدة سكنية مؤقتة على شكل كرفانات، تستوعب حوالي 1.3 مليون شخص متضرر من الحرب، وتُعتبر هذه المرحلة أساسية لضمان عودة النازحين وحمايتهم من ظروف النزوح القاسية، في ظل نقص المرافق والخدمات الأساسية.
وأضاف الكسار إن الخطة المصرية لا تتجاهل أهمية القطاع الزراعي في غزة، وتتضمن خططًا لاستصلاح الأراضي الزراعية لضمان عودة الأنشطة الزراعية التي يعتمد عليها عدد كبير من السكان كمصدر رزق رئيسي، كما أنها ضرورية لدعم الأمن الغذائي في قطاع غزة.
تحديات عملية إعادة الإعمار
أظهرت التجارب السابقة بعد حرب 2014 أن الالتزامات المالية غير كافية ما لم تُترجم إلى آليات تنفيذ واضحة، في ذلك الوقت، تعهد المانحون بتقديم مبلغ يقارب 5.4 مليارات دولار لإعادة إعمار غزة، إلا أن معظم هذه الوعود لم تُنفذ بسبب التعقيدات السياسية وغياب نظام إداري فعال لإدارة الميزانية.
أما التحدي الثاني، فيتعلق بآلية الوصول المستدام للمساعدات واستيراد احتياجات إعادة الإعمار، تواصل "إسرائيل" فرض قيود صارمة على دخول مواد البناء والآلات الثقيلة إلى قطاع غزة، بزعم إمكانية استخدامها لأغراض عسكرية، وقد أظهرت التجارب السابقة في إعادة إعمار غزة أن هذه القيود أدت إلى تأخيرات مفرطة في تنفيذ المشاريع وشلل في سوق المقاولات المحلية.
إزالة الذخائر وضمان انتهاء الحرب
لا تزال إزالة الذخائر غير المنفجرة من أخطر العوائق أمام البدء الفعلي للمشاريع، ووفقًا للأمم المتحدة، تحتاج مئات الكيلومترات المربعة من الأراضي في غزة إلى التطهير قبل إعادة استخدامها أو إعادة بنائها، تُقدّر دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام (UNMAS) أن العملية ستتطلب ميزانيات ضخمة ومعدات متخصصة وفرقًا هندسية عالية المهارة، ما يعني أن مرحلة "الهندسة الميدانية" ستكون الأساس لإعادة الإعمار لاحقًا.
تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أنه مع وجود أكثر من 50 مليون طن من الأنقاض والذخائر غير المنفجرة في مناطق مكتظة بالسكان، فإن إزالة الأنقاض وحدها قد تستغرق ما بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة، هذا يعني أن أي خطط لإعادة الإعمار ستخضع لتقدم برامج إزالة الألغام والهندسة الميدانية قبل بدء البناء الفعلي.
باختصار، فإن الفجوة بين الصور الإعلامية للهدوء النسبي في غزة وواقع الدمار على الأرض عميقة ومثيرة للقلق. لا تواجه غزة أزمة إنسانية فورية فحسب، بل تواجه أيضًا تحديات لوجستية وبنية تحتية هائلة لا يمكن تصورها، الوقت ينفد بالنسبة لغزة، والمجتمع الدولي على أعتاب اختبار تاريخي: هل سيتمكن من تجاوز التعقيدات السياسية بسرعة تليق بحجم الكارثة وإنقاذ غزة من حافة الدمار الشامل، أم سيشهد مأساة أخرى من الوعود غير المنجزة ومعاناة المدنيين المستمرة؟