الوقت- في كل مرة يُقصف فيها المدنيون في جنوب لبنان أو تُرتكب مجازر يومية في غزة أو تُشن غارات على سورية، يلتزم الإعلام الغربي صمتاً شبه مطبق، وكأن حياة العرب لا تستحق الذكر إلا كأرقام في تقارير موجزة، وفي المقابل، نرى هذا الإعلام نفسه يضجّ بتغطية واسعة ومفصلة لأي حادث يصيب المستوطنين القادمين من شتى أصقاع الأرض لاحتلال أرض غيرهم، فيُعاملون كضحايا مقدّسين، بينما يُقدَّم العرب، الذين يدافعون عن بيوتهم وأرضهم، كأرقام هامشية أو كجناة محتملين. هذه المفارقة ليست مجرد خلل مهني في التغطية الإعلامية، بل تعكس أزمة أخلاقية عميقة في الحضارة الغربية المعاصرة، حيث صارت قيمة الإنسان مرتبطة بجنسيته ودينه ولونه، لا بإنسانيته.
الفارق في التغطية: إنسان غربي مقابل "رقم" عربي
منذ عقود، والغرب يشيّد منظومته الأخلاقية على فكرة “الإنسانية الكونية”، لكن هذه الإنسانية تتوقف عند حدود معينة، فهي لا تشمل العرب والمسلمين عندما يكونون ضحايا العنف الغربي أو حلفائه.
الإعلام الغربي يُدقّق في كل استهداف يصيب مستوطناً في الأراضي المحتلة، بينما يمرّ على المجازر في غزة وجنوب لبنان مرور الكرام، وكأن حياة العربي أقل قيمة من حياة الآخر.
هذه الازدواجية تتجلى أيضاً في المصطلحات المستخدمة: فالمستوطنون المحتجزون لدى المقاومة الفلسطينية يوصفون بـ”الرهائن”، في حين يُشار إلى الفلسطينيين المحتجزين في سجون كيان الاحتلال الإسرائيلي، وغالبيتهم مدنيون، بـ”السجناء” أو “المعتقلين الأمنيين”. تغيير المفردة هنا ليس بريئاً، بل هو جزء من آلة لغوية هدفها تبرير القمع وتجريد الضحايا من إنسانيتهم.
الانفصال الأخلاقي في الوعي الغربي
إن هذا التجاهل المنهجي لمعاناة العرب لا يعكس فقط تحيزاً إعلامياً، بل يكشف مرضاً أخلاقياً عميقاً في المجتمعات الغربية، حيث يُقاس معنى الحياة بمقدار الانتماء إلى "العالم الغربي" لا إلى الإنسانية جمعاء.
في كل عام، يحيي الساسة الغربيون بوقار ذكرى الهجمات التي طالت بلدانهم، بينما يتجاهلون الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون والعرب.
وفي هذا الصمت الغربي الرسمي والإعلامي، يتجلى ما يمكن وصفه بـ"الفصل الأخلاقي" عن الواقع العربي، إذ تبدو حياة العربي لا تستحق التعاطف إلا إذا خدم موته رواية الغرب عن “العنف والإرهاب”.
حتى عندما تُعرض صور الدمار في غزة أو جثث الأطفال في خان يونس، تُقدَّم بعبارات منزوعة من السياق الإنساني والسياسي، وكأن المأساة تقع في فراغ أخلاقي. أما إذا أصيب غربي واحد في حادث مشابه، تتصدر قصته الصفحات الأولى، ويُذكر اسمه وصورته وتفاصيل حياته، في حين يُختصر العربي في كلمة واحدة: “قتيل”.
خطاب التفوق العنصري في ثوب جديد
الخطاب الغربي الذي يبرّر إهانة العرب وتدمير مجتمعاتهم ليس طارئاً، بل هو امتداد مباشر للتراث الاستعماري الأوروبي الذي تأسس على فكرة تفوق العرق الأبيض على الشعوب المستعمَرة.
لقد مثّل تجريد الشعوب من إنسانيتها إحدى ركائز الفكر العنصري الغربي منذ القرون الوسطى، مروراً باستعمار الأميركيتين وإفريقيا وآسيا، ووصولاً إلى سياسات الهيمنة الراهنة في الشرق الأوسط.
وما زال هذا الخطاب يُعاد إنتاجه اليوم عبر كيان الاحتلال الإسرائيلي، الذي يمثل النموذج الأحدث للتفوق العنصري الأوروبي في المنطقة.
فعندما صرّح وزير الحرب في كيان الاحتلال، يوآف غالانت، قائلاً:
“سنفرض حصاراً كاملاً على غزة... لا كهرباء، لا طعام، لا ماء، لأننا نقاتل حيوانات بشرية ونتصرف على هذا الأساس”
لم يكن يتحدث من فراغ، بل عبّر عن عقيدة راسخة في الفكر الصهيوني، استمدّ جذوره من الخطاب الأوروبي العنصري نفسه الذي ميّز "العرق الآري" عن غيره واعتبر الآخرين كائنات دون البشر.
وقد سبق غالانت في هذا الخطاب مسؤولون آخرون في كيان الاحتلال. فقد وصف رفائيل إيتان، رئيس الأركان الأسبق، الفلسطينيين بأنهم “صراصير مسمّمة داخل قنينة”، بينما تفاخر ضابط آخر بمصادرة “صهريج ماء للحثالات الفلسطينيين كي يموتوا عطشاً”.
هذه اللغة ليست مجرد انفعال عابر، بل تجسيد عملي لفكرة أن العربي كائن لا يستحق الحياة، وأن قتله لا يثير أزمة ضمير في الوعي الغربي.
تواطؤ الغرب الرسمي والإعلامي
لم يكن مستغرباً أن يتبنى الغرب الرسمي الرواية الاستعمارية التي يروّجها كيان الاحتلال الإسرائيلي، وأن يتجاهل جرائمه رغم توثيقها بالصوت والصورة من منظمات دولية عديدة.
ففي حين يسارع القادة الغربيون إلى اتهام روسيا بارتكاب “جرائم حرب”، يمتنعون عن توجيه التهمة نفسها عندما يتعلق الأمر بكيان الاحتلال، بل يذهبون أبعد من ذلك في عرقلة تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية التي تنظر في جرائم الحرب ضد الفلسطينيين.
وهكذا يُحرم الضحايا العرب من العدالة، لأن معاناتهم ببساطة لا تخدم المصالح السياسية للغرب.
كما أشار الباحث إميل بدارين في مقاله المنشور على موقع Middle East Eye، فإن “الضحايا لا يستطيعون إقناع مستعمريهم الأوروبيين بمعاناتهم، لأن الغرب لا يزال يرى في نضال الفلسطينيين تهديداً لمفهومه المزيّف عن العدالة”.
فالسياسيون الغربيون ووسائل الإعلام لا يكتفون بتجاهل المأساة الفلسطينية، بل يطالبون الفلسطينيين بـ"إدانة أنفسهم" وبالتخلي عن حقهم في المقاومة، وهكذا يُعاد إنتاج الاستعمار في صورته الحديثة: الضحية مدانة، والمستعمِر هو المدافع عن النفس.
ازدواجية المعايير بين فلسطين وأوكرانيا
شهد العالم في السنوات الأخيرة مثالاً صارخاً على ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع الكوارث الإنسانية.
حين اندلعت الحرب في أوكرانيا، امتلأت الشاشات الغربية بصور اللاجئين الأوكرانيين ووُصِفوا بأنهم "بيض، متحضرون، يشبهوننا"، في تمييز عنصري فجّ ضد ضحايا الحروب في الشرق الأوسط.
أما عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين الذين يُقتلون بالجملة في غزة، أو السوريين واللبنانيين الذين يموتون تحت القصف الإسرائيلي، فالعالم الغربي يكتفي بالتبرير، ويعتبر موتهم نتيجة "حتمية" لصراعات معقدة، لا تستحق الغضب أو الحزن.
هذا التناقض يفضح عمق الأزمة الأخلاقية في الوعي الغربي، الذي يُخضع مشاعره الإنسانية لمعايير سياسية وعنصرية، فيتعاطف مع ضحايا “يشبهونه” ويتجاهل الآخرين.
إنه الفصل العنصري نفسه الذي تمارسه آلة الاحتلال ضد الفلسطينيين، لكن هذه المرة بغطاء ثقافي وإعلامي غربي.
الفكر الغربي يحتاج إلى إعادة تقييم
لم تعد المشكلة في السياسات الغربية فحسب، بل في المنظومة الفكرية والإعلامية الغربية نفسها، التي تحتاج إلى إعادة تقييم جوهرها الإنساني.
فالخطاب الإعلامي الذي يُظهر المستوطنين كضحايا والفلسطينيين كجناة، هو نتاج ثقافة ترى أن العربي أقل قيمة، وأن “أمن الغرب” يتطلب تدمير الشرق.
وفي ظل هذه الثقافة، يصبح قتل العرب فعلاً “مبرَّراً”، ويُقدَّم تدمير المدن العربية على أنه “دفاع عن النفس”.
إن هذا الانهيار الأخلاقي لا يمكن تبريره بالخوف من “الإرهاب” أو بحجج “محاربة التطرف”، لأن التطرف الحقيقي هو في من يعتبر نفسه إنساناً أكثر من غيره. فالخطاب السياسي اليميني المتطرف الذي يجتاح أوروبا وأمريكا اليوم يكرّس هذه الفكرة بوضوح، إذ لم يعد يخجل من تبرير قتل المسلمين والعرب باعتباره “فضيلة” أو “ضرورة حضارية”.
لماذا يركز الغرب على سلب الإنسانية من العرب
إن اعتراف الغرب بإنسانية العرب، ولا سيما الفلسطينيين، سيعني بالضرورة أن يعترف أيضاً بجرائمه التاريخية وبزيف خطابه الحضاري، ولهذا يرفض هذا الاعتراف بكل الوسائل، فأي إقرار بإنسانية الضحية سيجبر الجلاد على النظر في مرآة تاريخه الملطخ بالدماء.
لكن الحقيقة تبقى واضحة: العرب ليسوا أرقاماً، بل بشراً، وحياتهم لا تقل قيمة عن أي حياة أخرى، مهما حاول الإعلام الغربي تصوير الأمر بخلاف ذلك، إن ما نراه اليوم من قصف وتدمير وتجويع في غزة ولبنان وسوريا ليس مجرد صراع عسكري، بل معركة على معنى الإنسانية ذاته، الإنسانية التي يحاول الغرب احتكارها لم تعد تخصه وحده، بل هي ملك للبشر جميعاً.
ولن يتحقق السلام أو العدالة في هذا العالم ما لم تُعاد الإنسانية إلى كل من جُرّد منها، وفي مقدمتهم الشعوب العربية التي ما زالت تدفع ثمن عنصرية الغرب وتواطئه مع آلة الاحتلال.