الوقت- في ظلّ الحرب المستمرة على قطاع غزّة، تتصاعد مؤشرات العجز داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بشكلٍ لافت، حيث يجد جيش الاحتلال نفسه في مأزق غير مسبوق يتمثل في النقص الحاد في القوى البشرية وعدم القدرة على تحقيق الأهداف المعلنة رغم مرور شهور طويلة على بدء العدوان، الأزمة التي تعصف بالجيش لم تعد خافية على أحد، وقد برزت إلى العلن بشكل أوضح مع إعلان قادة الاحتلال عن حاجتهم إلى ما لا يقل عن ستين ألف جندي إضافي للسيطرة على القطاع، وهو رقم يكشف حجم المأزق الميداني ويؤكد فشل الخطط السابقة في إحراز تقدم حقيقي.
ومع امتناع عشرات الآلاف من جنود الاحتياط عن تلبية أوامر الاستدعاء بسبب الإنهاك النفسي والجسدي الناتج عن جولات القتال المتكررة، لجأت قيادة الاحتلال إلى خطوة خطيرة تكشف حجم الانهيار الداخلي، وهي تجنيد شبان لم يمضِ على تخرجهم من المدارس الثانوية سوى أسابيع قليلة، ودفعهم مباشرة إلى أتون المواجهة مع مقاومة فلسطينية أثبتت صلابة عالية وخبرة ميدانية استثنائية.
هذا القرار الذي فضحته صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، لم يأتِ من فراغ، بل هو انعكاس مباشر لحالة الانهاك التي يعيشها الجيش الإسرائيلي وفقدانه القدرة على تعويض الخسائر البشرية الكبيرة التي تكبدها في الشهور الأخيرة، فالمجتمع الإسرائيلي يعيش حالة غير مسبوقة من التذمر والانقسام، حيث تتزايد أعداد الجنود الرافضين للخدمة، سواء من الاحتياط أو من المجندين الجدد، وهو ما دفع بعض وسائل الإعلام الغربية إلى وصف المشهد بأنه بداية لتفكك منظومة التجنيد التي طالما اعتمدت عليها المؤسسة العسكرية في حروبها السابقة، ولعلّ ما يضاعف من قسوة هذه الحقيقة أن القيادة العسكرية والسياسية لا تملك رؤية واضحة لما بعد المعارك، إذ أقرّ رئيس الأركان نفسه أمام الكنيست بأن الحكومة لم تقدّم حتى اللحظة أي خطة متكاملة لإدارة الوضع في غزّة، وهو اعتراف صريح بأن الجيش يُساق إلى معركة مجهولة المصير، ويُورَّط آلاف الشبان في حرب استنزاف بلا سقف زمني محدد.
المأزق لا يقتصر على الجانب البشري فحسب، بل يمتد إلى البعد الاستراتيجي، حيث أطلقت "إسرائيل" على عمليتها الأخيرة اسم "مركبات جدعون 2"، في محاولة لإيهام الرأي العام الداخلي بأن العملية تحمل طابعاً حاسماً ونهائياً، لكن ما تكشفه الوقائع أن هذه العملية ليست سوى نسخة مكررة من محاولات سابقة انتهت جميعها بالفشل الذريع، فالسيطرة الميدانية على قطاع محاصر ومكتظ بالسكان المدنيين ليست مهمة سهلة، بل هي عملية أشبه بالمستحيلة أمام مقاتلين يملكون خبرة قتالية متراكمة ويستفيدون من شبكة أنفاق واسعة النطاق تتيح لهم المناورة وتكبيد الاحتلال خسائر كبيرة، وبالفعل، فإن التجارب السابقة أظهرت أن أي توغل بري سرعان ما يتحول إلى مصيدة للجنود، وأن الوحدات الإسرائيلية غالباً ما تعود مثقلة بالخسائر البشرية والمادية دون تحقيق إنجاز يُذكر، ما يجعل الحديث عن "احتلال كامل" أقرب إلى الوهم الدعائي منه إلى الهدف العسكري القابل للتحقق.
ولعلّ الأخطر في هذه الخطوة هو زجّ مراهقين لا يملكون أدنى خبرة قتالية في مواجهة مباشرة مع مقاتلين محترفين من كتائب القسام وسرايا القدس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية، إن الدفع بخريجي المدارس الثانوية إلى ساحات القتال ليس فقط مؤشراً على اليأس، بل هو جريمة سياسية وأخلاقية ترتكبها القيادة الإسرائيلية بحق شعبها، إذ تُضحّي بأبنائها في حرب عبثية بلا أفق، وقد حذّر بعض الخبراء العسكريين الصهاينة أنفسهم من أن هذه الخطوة ستؤدي حتماً إلى ارتفاع غير مسبوق في عدد القتلى، وهو ما سيضاعف من السخط الشعبي ضد الحكومة والجيش معاً، ويكشف عجزهما عن إدارة المعركة، إن صور الجنود الشباب الذين يُرسَلون إلى الموت المحقق ستصبح وقوداً إضافياً للانتقادات الداخلية، وستسهم في اتساع الهوة بين القيادة العسكرية والمجتمع الإسرائيلي الذي بدأ يتساءل عن جدوى حرب تستنزف الأرواح والموارد دون نتيجة ملموسة.
ومن زاوية أخرى، فإن تجنيد هؤلاء الشبان وإجبار الاحتياطيين على العودة إلى ساحات القتال رغماً عن إرادتهم يسلّط الضوء على أزمة أخلاقية عميقة يعيشها الكيان، فقد بدأت حركات الرفض بالظهور بشكل علني، سواء عبر بيانات لمجموعات من الجنود أو عبر احتجاجات أهالي المجندين، وهو ما يشير إلى بداية تآكل "قدسية الجيش" في الوعي الإسرائيلي، تلك القدسية التي شكّلت لعقود طويلة العمود الفقري لتماسك الدولة العبرية، إن تمرّد الجنود أو امتناعهم عن تلبية الأوامر لم يعد ظاهرة فردية، بل تحوّل إلى اتجاه متنامٍ يكشف عن أزمة هوية وثقة داخل المجتمع، ويطرح أسئلة جدية حول قدرة "إسرائيل" على الاستمرار في حروب طويلة الأمد دون انهيار داخلي.
المعادلة الميدانية كذلك لا تسير في مصلحة الاحتلال، فالمقاومة الفلسطينية أثبتت مراراً قدرتها على الصمود والمفاجأة، سواء من خلال العمليات النوعية خلف خطوط التماس أو عبر استمرار إطلاق الصواريخ رغم القصف المكثف، كل ذلك يضاعف من مأزق الجيش الإسرائيلي الذي يجد نفسه محاصراً بين خيارين أحلاهما مرّ: إما التراجع والانكسار أمام مقاومة صغيرة نسبياً لكنها شرسة ومنظمة، أو الاستمرار في حرب استنزاف مدمرة تُضعف تماسكه الداخلي وتزيد من أزماته السياسية والاقتصادية، وفي كلتا الحالتين، فإن صورة "الجيش الذي لا يُقهر" تتآكل بسرعة، لتحل محلها صورة جيش مأزوم يتوسل جنوداً مراهقين لسدّ ثغراته.
في المحصلة، تكشف كل هذه المؤشرات أن "إسرائيل"، رغم جبروتها العسكري والدعم الأمريكي اللامحدود، تقف اليوم على حافة مأزق استراتيجي خطير، فالمجتمع المنقسم، الجيش المنهك، القيادة السياسية العاجزة، والضغط الدولي المتزايد، جميعها عوامل تجعل من حلم "احتلال كامل لغزة" مجرد وهم بعيد المنال، بل إن الإصرار على المضي في هذه السياسة قد يُسرّع من تآكل البنية الداخلية للكيان ويفتح الباب أمام أزمات وجودية لم يعرفها من قبل، إن زجّ الأطفال والمراهقين في حرب عبثية ضد شعب صامد ومقاومة راسخة لا يدل إلا على إفلاس كامل في الرؤية والقدرة، وهو إفلاس سيُسجَّل في التاريخ كعلامة فارقة على بداية أفول المشروع الصهيوني الذي قام على القوة والردع، فإذا بالقوة تنهار والردع يتبخر.