الوقت - بعد انقضاء ما يناهز الشهر على المواجهة المشتعلة بين إيران والكيان الصهيوني، لا تزال سيول التحليلات وفيض التفسيرات تتدفق حول أبعاد هذه المعرکة ونتائجها التكتيكية والاستراتيجية في فضاء الإعلام. وفي هذا المضمار، قدّم “مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية” ملفاً وافياً تحت عنوان “دروس مستخلصة من المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية”، متغلغلاً في ثنايا هذه المعركة وأبعادها المتشعبة، مستجلياً أبرز العبر على النحو الآتي:
1- تحييد “إغواء القوة” الإسرائيلي
في مستهل تحليله، يرى صاحب الدراسة أن المواجهة ذات الأيام الاثني عشر كشفت بجلاء أن الردع وحده هو الكفيل بصناعة الأمن، ويضيف: "ليس ثمة ما يكبح جماح إسرائيل عن شن غاراتها سوى امتلاك قدرات ردعية حقيقية، فغياب هذه القدرات كان المحرك الرئيسي وراء عدوانها المتكرر على سوريا ولبنان والعراق واليمن والأراضي الفلسطينية المحتلة، لذا، لم يكن من اليسير على إسرائيل أن تقتحم ميدان المواجهة مع دولة بقامة إيران، في صراعٍ كان يمكن أن يستحيل إلى حرب استنزاف مديدة، بيد أنها أقدمت على المجازفة بعد أن استيقنت من المساندة الأمريكية، ولم تنكفئ إسرائيل عن مواصلة المعركة إلا حينما تمكنت إيران من إيقاع خسائر فادحة في العمق الإسرائيلي، وهذا يعني أن أي دولة عربية معادية تفتقر إلى قدرات الردع في مواجهة الغارات الإسرائيلية، قد تغدو هدفاً محتملاً للعدوان الإسرائيلي، بينما أي دولة تحوز قدرات ردعية ستصمد في وجه مثل هذه العمليات.
وبعبارة أخرى، فإن الرسالة الجوهرية من المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية، هي أن تحديث الجيوش الوطنية في عصر السيادة التكنولوجية والذكاء الاصطناعي بات ضرورةً حتميةً، وقد أماطت هذه المواجهة اللثام عن أهمية المسيّرات الهجومية والصواريخ الباليستية في تأثيرها العملياتي والاستراتيجي على البنية التحتية للخصم، كما أبرزت مجدداً أهمية امتلاك درع دفاعي جوي منيع والاستعداد لمواجهات طويلة الأمد".
2- الفارق الشاسع بين مواجهة الدول والجماعات
برهنت تجربة هذه المعركة أن النهج الإسرائيلي الذي أثمر نجاحاً في مواجهة فصائل كحزب الله، يفتقر للنجاعة عند مجابهة دولة مركزية كإيران، فالعمليات العسكرية الإسرائيلية في مستهل المواجهة، تشي بأن غايتها كانت اجتثاث رأس القيادة الميدانية الإيرانية لشلّ قدرتها على إدارة التصعيد العسكري بالكامل، بيد أن هذا المسعى أخفق، إذ استطاعت إيران - رغم تكبدها خسائر جسيمة - أن تستعيد عافيتها بسرعة مذهلة، وأن تسدّد ردوداً موجعةً.
فالدول أكثر عمقاً واتساعاً وقدرةً على امتصاص الضربات والعودة إلى ساحة الحرب، بل تنفيذ هجمات فتاكة، ولعل عزوف "إسرائيل" عن الانغماس في حرب استنزاف طويلة مع إيران، في ضوء الخسائر الفادحة التي تكبدتها خلال الأيام الاثني عشر للمواجهة، كان أحد الدوافع الرئيسية التي حدت بها إلى استجداء التدخل الأمريكي، وإعلان دونالد ترامب وقف إطلاق النار في 24 يونيو 2025.
3- محدودية القوة العسكرية
رغم التفوق العسكري الواضح، عجزت "إسرائيل" والولايات المتحدة عن بلوغ مآربهما الاستراتيجية، فحتى أعتى الأسلحة تطوراً لم تفلح في إيقاف عجلة البرنامج النووي الإيراني.
ورغم التباين الهائل بين الترسانات العسكرية للأطراف المتحاربة، لم يستطع هذا التفوق أن يمكّن الأطراف الأقوى (أمريكا وإسرائيل) من تحقيق غايات المواجهة، فالرواية الرسمية الأمريكية وترامب - التي انبرت لتضخيم نتائج الغارات على المفاعلات النووية الثلاثة - لم تلق رواجاً حتى داخل الولايات المتحدة ذاتها، فإضافةً إلى تقرير وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية الذي وصف النتائج بالمحدودية، اعتبر ثلة من خبراء الطاقة النووية أن أهمية وتأثير هذه النتائج ضئيلة، معتقدين أن أقصى تأثير لها هو تأخير البرنامج النووي الإيراني.
وأشار رافائيل غروسي، المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى أن إيران بمقدورها استئناف تخصيب اليورانيوم في غضون أشهر معدودة، وأكد البنتاغون في الـ 2 من يوليو 2025 أن الغارات الأمريكية على المفاعلات الإيرانية ربما أرجأت البرنامج النووي قرابة عامين فحسب، وهذا يشي بأن أمريكا و"إسرائيل" لم تبلغا مآربهما الكاملة في هذه المواجهة ذات الأيام الاثني عشر.
4- عجز الکيان الإسرائيلي عن تحمل حروب الاستنزاف مع الدول
من النتائج البارزة التي يسلط الأهرام الضوء عليها في تحليله لمسار المواجهة ذات الأيام الاثني عشر، هي رصد عجز الكيان الصهيوني عن تحمل حروب استنزاف مديدة مع الدول.
فقد كشفت السنتان المنصرمتان أن "إسرائيل" قادرة على احتمال حرب استنزاف طويلة مع الفصائل والميليشيات، لكنها تعجز عن خوض حروب مديدة مع الدول، فرغم مساعي حكومة بنيامين نتنياهو لإظهار استعدادها لمجابهة إيران حتى إسقاط النظام الحاكم، لم تكن قدرة "إسرائيل" وافيةً دون السند العسكري الأمريكي.
ومن العوامل الأخرى التي صدّت "إسرائيل" عن الانغماس في حرب طويلة، قدرة إيران على امتصاص الضربات الأولى - الضربة التي أودت بحياة كبار القادة العسكريين والحرس الثوري والعلماء النوويين مثل الفريق محمد باقري (رئيس أركان القوات المسلحة)، واللواء حسين سلامي (قائد الحرس الثوري)، واللواء أمير علي حاجي زاده (قائد القوة الجوفضائية للحرس الثوري)، كما أحكمت إيران قبضتها على شبكات التجسس (الموساد - فرع إيران)، وفي ضوء ذلك، انتهت المواجهة عندما أيقنت "إسرائيل" أن مواصلة القتال ليست ذات جدوى سياسية وعسكرية.
5- دور شبكات التجسس
وظّفت "إسرائيل" في هذه المعركة شبكةً واسعةً من العملاء المتغلغلين الذين اضطلعوا بدور محوري في انتصاراتها الأولية، وهذا يبرز أهمية تعزيز الأمن الداخلي أكثر من أي وقت مضى.
لقد برهنت هذه المواجهة أن الحرب العصرية ليست مجرد صراعٍ بين الصواريخ والمقاتلات، بل هي معركة معلومات وتنافس بين الشبكات، لذا، فإن الانكباب على تعزيز الأمن السيبراني وتقوية شبكات القيادة والسيطرة أمر حيوي، كما أن اليقظة الأمنية العالية بين منتسبي القطاعات الدفاعية والسيادية ضرورية، لأن عمليات الموساد الرئيسية لا تجري إبان الحرب، بل في فترات “الهدوء النسبي” لبناء قاعدة بيانات واسعة للهجوم المرتقب، وعليه، فإن الجبهة الداخلية متغير حاسم في الحروب.
6- التخطيط لسيناريوهات هجومية
يتناول الأهرام في تقريره مواطن القوة والضعف لدى طرفي المعركة في مضمار السعي للسيطرة على الفضاء الجوي، ويشير إلى القوة الجوية المتفوقة لـ "إسرائيل" وسيطرتها الجوية في الأيام الأولى من المواجهة ونقاط ضعف منظومة الدفاع الجوي الإيراني، ومن ناحية أخرى يقرّ بنجاح إيران في اختراق صواريخها لمنظومات الدفاع المتعددة الطبقات للكيان، ويذكر أن موجات متتالية من الصواريخ الباليستية والفرط صوتية استطاعت أن تخترق قدرات "إسرائيل" الدفاعية، ما جعل سماء "إسرائيل" مكشوفةً نسبياً.
7- أهمية التحالفات الاستراتيجية
بينما حظيت "إسرائيل" بدعم غربي غير مشروط، أخفقت إيران في نسج تحالفات فعالة مع قوى كروسيا والصين.
8- التقارب الأمريكي-الإسرائيلي
أماطت هذه المواجهة اللثام عن أن سياسات الولايات المتحدة و"إسرائيل" في المنطقة، قد تقاربت إلى حد يصعب معه التمييز بين مصالح وقرارات البلدين.
9- العقلانية الاستراتيجية الإيرانية
کتب محلل الأهرام عن نمط إدارة إيران للمعركة قائلاً إنه رغم الخطاب الأيديولوجي، أبدت إيران قدراً لافتاً من العقلانية في إدارة هذه الأزمة، وتجنبت التصعيد غير المبرر للمواجهات.
10- محدودية الهيمنة الإقليمية
وفقاً للأهرام، لم يستطع أي من الطرفين تحقيق تفوق كامل في المنطقة، ما يشير إلى توازن نسبي للقوى في الشرق الأوسط، وأظهرت هذه الحرب أن القوى الإقليمية تواجه قيوداً في هيمنتها، فقد ادعت "إسرائيل" أنها تريد تغيير أو إعادة تشكيل الشرق الأوسط، لكنها رغم إلحاق الضرر بـ “محور المقاومة” واغتيال قادة إيرانيين وقادة من حزب الله، لم تستطع خلق ردع استراتيجي، واستمرت هجمات إيران وحزب الله، ولم تستطع "إسرائيل" حتى تنفيذ خطتها في غزة بشكل كامل.
11- تراجع دور الفاعلين من غير الدول
في حين أن إيران لم تطلب من أعضاء محور المقاومة الآخرين في المنطقة الدخول في المواجهة مع الكيان الصهيوني، بل اعترف مسؤولون إيرانيون بأن 70% من القدرات القتالية والعسكرية الإيرانية لم تُستخدم في هذه الحرب، يذكر كاتب الأهرام أن جماعات وفصائل المقاومة مثل حزب الله وأنصار الله والحشد الشعبي “امتنعت عن المشاركة في الحرب”، معتبراً ذلك مؤشراً على “محدودية الاعتماد على الجماعات المسلحة”.
12- حسابات الربح والخسارة
في قسم لاحق من المقال، يقدّم الكاتب - الذي اعترف في بداية تقريره بفشل الكيان الصهيوني وأمريكا في تحقيق أهدافهما في العدوان على إيران، واعتبر ردود إيران القوية عاملاً أجبر الكيان على طلب وقف إطلاق النار - استنتاجاً مختلفاً، إذ يكتب أن تقييم نتائج الحرب لكل طرف أمر معقّد، ولا يمكن ببساطة تحديد فائز أو خاسر واضح.
فقد وجّهت "إسرائيل" ضربةً قاسيةً لشبكة القيادة العسكرية، كما تضررت المنشآت النووية الإيرانية، وفي المقابل، أسفرت الهجمات الصاروخية الإيرانية عن عشرات القتلى والجرحى في "إسرائيل"، وألحقت أضراراً كبيرةً بعدة مدن - بما فيها تل أبيب.
13- مرحلة ما بعد الحرب
يواصل الأهرام تحليله بثلاثة مبادئ أخرى تشمل: 14- ضرورة تبني استراتيجية تنويع مصادر التسلح، 15- الاعتماد على قيادة شبكية مرنة، و16- ظهور الحرب السيبرانية والمعلوماتية، كدروس مستخلصة من الحرب ذات الاثني عشر يوماً، ويختتم بالحديث عن وضع ما بعد وقف إطلاق النار قائلاً: “إن نهاية المواجهة لا تعني انتهاء التوترات، بل تدشن مرحلة جديدة من التنافس الاستراتيجي.”
الخلاصة
وفقاً لمركز الأهرام المصري، تُعد الحرب ذات الاثني عشر يوماً بين إيران و"إسرائيل"، نقطة تحول محورية في التطورات الاستراتيجية بالشرق الأوسط، فهذه المواجهة لم تكشف فقط عن نقاط القوة والضعف لدى الطرفين، بل أحدثت أيضاً تغييرات جوهرية في المعادلات الإقليمية، ويكتسي الفهم العميق لدروس هذه الحرب أهميةً حيويةً لجميع الفاعلين الإقليميين، إذ ستُرسي إطاراً جديداً للتنافسات المستقبلية في الشرق الأوسط.