الوقت- إنها مسألة وطن، وطن يريد البعض المساومة على ترابه بعد وضع قراره السياسي في مزاد علني لمن يدفع بضع ريالات، غاب عن ذهن هؤلاء أن بيع الموقف والقرار يعني أن كل شیئ من الممكن أن يكون في معرض الشراء والبيع والمساومة.
هذه هي الخلاصة المحزنة للمشهد المصري اليوم، فمصر أم الدنيا وبسبب بعض المساومات التي دخلت بها قيادتها وعلى رأسها الرئيس عبد الفتاح السيسي باتت بين نارين أهونهما مُهلك. فبعد المساومة على الموقف السياسي المصري اتجاه قضايا الأمة، كان من الجدير أن يعلم الرئيس المصري والقيادة من خلفه أن مسيرة الابتزاز لن تقف عند هذه الحدود، كما أن النفع الاقتصادي لن يكون بحجم التنازلات المقدمة.
نعم لم تقم مصر بأي خطوة عملية في حلفها مع السعودية، ولكن الصمت كان كاف لآل سعود ليتمكنوا من انتهاك اليمن والاستمرار في دعمهم للحرب الكونية الدائرة على سوريا، كما أنه كان كافيا لاستمرارهم في عملية الابتزاز الرخيصة لمصر وهذه المرة في المساومة على تراب الوطن الذي يناهز عدد سكانه التسعين مليونا.
إنها قضية جزيرتي تيران وصنافير المصرية تعود إلى الواجهة مجددا، فبعد اتفاقية التنازل عن الجزيرتين التي وقعتها الحكومة المصرية مع السعودية في نيسان أبريل من العام الماضي على هامش زيارة سلمان بن عبد العزيز للقاهرة، أصدرت المحكمة الإدارية العليا في مصر في 16 كانون الثاني يناير الماضي حكما نهائيا ببطلان الاتفاقية مع السعودية، وصرح رئيس المحكمة أحمد الشاذلي في حينها قائلا: "إن سيادة مصر على جزيرتي تيران وصنافير مقطوع بها".
ولكن الأمر لم ينتهي عند هذا الحد، فعلى الرغم من أن قرار المحكمة الإدارية يعتبر نهائي كونها أعلى جهة معنية بالطعون الإدارية، إلا أن الضغوط السعودية على السلطة السياسية المصرية لتمرير الاتفاقية لا زال قويا، مما أجبر الرئيس السيسي على إلقاء الكرة في ملعب مجلس النواب، الذي أُربك بداية الأمر ليبدأ مناقشة الاتفاقية عقب إحالتها للجنة الشؤون التشريعية.
هذا ويحاول السيسي تمرير الاتفاقية بشكل لا يؤثر على شعبيته عبر الضغط على أعضاء البرلمان من خلال لقاء جمع رئيس الحكومة شريف اسماعيل مع عدد من ممثلي الكتل الرئيسية لإقناعهم بسعودية الجزيرتين والضرورات التي تجبر الحكومة على تمرير هذه الاتفاقية في الوقت الراهن.
وجد النظام المصري برئاسة عبد الفتاح السيسي نفسه بين الضغوط السعودية لتمرير الاتفاقية وبين نار الانتقادات والترقب الداخلي للتصدي لأي محاولات في هذا الصدد. قرار كهذا سيؤدي لخسارة السيسي جزأ كبير من شعبيته على أعتاب الانتخابات الرئاسية المصرية العام القادم. ولذلك فمن المستبعد أن يقدم السيسي على تمرير هكذا اتفاقية في الوقت الراهن.
ولذلك يجري الحديث حاليا ضمن بعض الدوائر المقربة من الرئاسة المصرية لإرجاء البت في هذه القضية لما بعد انتخابات 2018 للتمكن من التعامل بهدوء مع الأزمة الشعبية التي قد تولدها هذه القضية.
القرار إذا أكبر من السيسي، خاصة أن مئات الشخصيات العامة المؤثرة في المجتمع المصري تنظم حملات شعبية تشكل سدا في وجه ما يسمونه التفريط في تراب الوطن، مطالبين السلطات التشريعية والتنفيذية احترام الحكم القضائي الصادر من أعلى محكمة بالدولة وعدم الرضوخ للضغوطات والابتزاز الخارجي.
على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن يدرك جيدا أن المساومة في كل مرة ستجر مصر للدخول في دهليز الارتهان أكثر إلى دول هي نفسها لا تملك قرارها السياسي، ولا يعتقدن السيسي أن بعض التنازلات في سبيل مساعدات اقتصادية سيمكن مصر من استعادة عافيتها ومكانتها في المنطقة، فآل سعود ومن خلفهم لن يكتفوا بالصمت المصري كما لن يكتفوا حتى بتيران وصنافير فهدفهم هو إسقاط حضارة ومجتمع ضارب في التاريخ ليتمكنوا من تنفيذ مخططاتهم المشؤومة بحق الأمة المصرية والعربية.
الشعب المصري يعلم حق اليقين أن التمسك بتراب الوطن أهم أسس الوطنية، ولا تملك أي سلطة وأي مسؤول مهما علا مقامه حق التفريط بحبة تراب منه، وذلك ليس بحاجة لاستفتاء شعبي ولا تصويت مجلس نواب أو حكومة. فكما عبرت بعض الشخصيات المصرية فهذه الأرض ملك للأجيال القادمة وليست حكرا لأحد يستطيع بيعها أو التنازل عنها مهما كانت الضرورات.
لن يغفر الشعب المصري كما التاريخ لأي سلطة تتخذ قرارا من هذا المستوى، قرار لا يمكن وصفه إلا جريمة بحق الوطن، ومهما كانت الذرائع والضغوط الاقتصادية فإن هكذا خطوة لن تؤدي لحل الأزمة بل ستزيد الأمور سوءا وارتهانا لدول لا تعرف معنى الاستقلال والحرية كمصر.