الوقت - وضعت السلطة الفلسطينية قطار الانتخابات البلديّة على سكّة الانقسام واللامصالحة. حيث قرّر أبو مازن رئيس السلطة والمنظمة و"الدولة" حصر فكّي الانتخابات في الضفّة الغربية دون مشاركة قطاع غزّة في الانتخابات الأولى التي تُجرى في فلسطين المحتلة بعد أحداث الانقسام الداخلي عام 2007. ولو أردنا الكلام بشكل أدقّ الأولى منذ العام 2005 موعد آخر انتخابات بلدية بمشاركة الفصائل الفلسطينية والتي أُنجزت في ظل التنافس التقليدي بين فتح وحماس.
ويأتي القرار الجديد خلافاً لقرار سابق صدر عن الحكومة الفلسطينية في 21/6/2016 بإجراء الانتخابات للهيئات المحلية، ليقابل بترحيب من حماس ومن الفصائل الفلسطينية المختلفة، إلا أن موافقة حماس، على مضض، على قرار عباس وهو ما تزامن مع جملة من المتغيّرات الفتحاويّة دفعت برئيس السلطة للتراجع عن القرار السابق وتعليق الانتخابات، ليتراجع مجدّداً ويقرّر السير بالانتخابات المحليّة الفلسطينية فقط في رام الله.
عباس ضرب باتفاق المصالحة الفلسطيني الذي تمّ توقيعه في أوائل مايو/أيار2011 عرض الحائط، غير آبه بالبيت الداخلي الفلسطيني من خلال تدوير الخلافات وترتيب انتخابات شفّافة وحرّة دون أي تلاعب بالنتائج أو ضغوط من مختلف الأجهزة الأمنيّة.
لا مكان لحسن النيّة مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي يريد نظاماً مفصّلاً على مقاسه، في الداخل الفلسطيني، وفي حركة فتح نفسها، خاصّة أنّه أحد أبرز المعدّين لاتفاق أوسلو. رئيس سلطة الأمر الواقع ومنظمة الأمر الواقع في رام الله يرسّخ من خلال خطوته هذه الانقسام الداخلي ويحول دون أي وحدة وطنية، ولو شكليّة، تصب في صالح القضيّة، وهنا لا بد من الإشارة إلى التالي:
أوّلاً: إن الترهّل السياسي الذي نتلمّسه من عباس في علاقته مع الكيان الإسرائيلي وواشنطن، ينعكس اليوم داخلياً عبر قرارات "تقسيميّة" لا تصبّ إلا في صالح رئيس السلطة نفسه. ولعل ما جرى أمام قصر العدل بين السلطة الأمنية والجماهير الشعبية خير دليل على واقع الضفّة.
ثانياً: لم يكن ارتباك عباس بقرار الانتخابات ليحصل لولا إدراكه بالنتائج الانتخابيّة المحليّة سلفاً. فحركة حماس التي فازت بأغلبية ساحقة وبنسبة 74% في نابلس، أكبر مدن الضفة الغربية في انتخابات العام 2005، رغم تأخرها عن فتح في قرى الضفّة، قادرة اليوم على قلب مشهد الضفّة، لاسيّما في ظل الانقسام الفتحاوي القائم من جهة، والهبّة الشعبية التي لم تعر أي اهتمام لعباس الذي يتآمر عليها من خلال عملية التنسيق الأمني من جهة أخرى.
ثالثاً: هذه الخشية لا تقتصر على الجانب الفتحاوي فحسب، بل تسري على الجانبين الإسرائيلي والأمريكي أيضاً. الكيان الإسرائيلي يخشى من حماس التي ترتّب أوراقها العربية والإقليمية حالياً، لأن فوزها بالانتخابات المحليّة سيكون مقدّمة لفوز مماثل في الانتخابات التشريعية. وأما واشنطن العاكفة على إبرام الصفقة الكبرى مع عباس وتصفية القضيّة دون عودة، فتخشى من فوز حماس في الضفّة لأن الأخيرة ستنسف كل ما أقرّه عباس لإدارة ترامب ومبعوثه جيسون غيرنبلات، ومن قبله لإدارة أوباما ووزير خارجيّته جون كيري. تكفي مراجعة شروط غيرنبلات التي وضعها لعباس في اللقاء الأخير.
رابعاً: إن السلطة الفلسطينية التي حصلت على موافقة الجبهة الشعبية سابقاً فيما يتعلّق بالانتخابات، باتت اليوم وحيدة بعد إعلان "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" مقاطعتها للانتخابات المحلية المقررة في أيار (مايو). وقد قالت الجبهة في بيانها الأخير، الثلاثاء، إنها "لن تشارك في انتخابات المجالس المحلية وتدعو إلى موقف ورؤية وطنية يواجه تغول السلطة الفلسطينية وممارساتها". ليس ذلك فحسب، بل إن قمع أجهزة أمن السلطة مسيرةً قرب "مجمع المحاكم" في رام الله بسبب محاكمة الشهيد باسل الأعرج، دفع بالمتظاهرين لترديد الهتافات ضد الأجهزة الأمنية مثل "يسقط يسقط حكم العسكر"، في حين طالب عدد آخر برحيل رئيس السلطة الفلسطينية مرددين "الشعب يريد إسقاط الرئيس".
خامساً: إن هذه الخطوة تعمّق التشرذم الفلسطيني والانقسام في البيت الداخلي، لا بل تجعله أحد ثوابت الوضع الفلسطيني الذي يدخل اليوم في نفق مظلم على الصعيدين الداخلي والخارجي. وهنا من حقّنا أن نطرح الأسئلة التالية: هل قرار عبّاس يهدف لتمكين الكيان الإسرائيلي من عزل غزّة عن الضفّة؟ بعبارة أخرى، هل يريد عباس تقديم غزّة خارج النطاق الفلسطيني لتكون بذلك الأرض المرتقبة للشعب مع اقتطاع جزء من سيناء؟ ألا تتماهى دعوته مع إعلان رئيس الدولة رؤوفين ريفيلين الأخير حول تبادل الأراضي والسكان؟
خطوة جديدة في الاتجاه الخاطئ، توضع في سجلّ عباس الذي يضجّ بالممارسات الانقسامية التي تحول دون تحقيق الوحدة الوطنية. ليس كلامي دفاعاً عن أي طرف آخر، حماس الجبهة الشعبية أو الجهاد أو غيرهم، بل عن القضيّة الفلسطينية وأمثال الشهيد باسل الأعرج، لأن هذه الخطوة التي تعزّز الانقسام، كما أسلفنا أعلاه، تعدّ مقدّمة طبيعية للتقسيم عبر عزل غزّة ليس عن العالم فحسب، بل عن فلسطين أيضاً.