الوقت- تتوالى قضايا الأمن القومي للمنطقة فصولاً. آخرها افتتاح المركز الإقليمي لمنظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" في الكويت، وذلك بناءً على "مبادرة إسطنبول للتعاون"، التي أطلقها زعماء دول الناتو في العام 2004، وكذلك اقتراح الكويت خلال انعقاد قمة "ناتو" في مدينة شيكاغو الأمريكية عام 2012، بغية تعزيز الروابط الأمنية بين الحلف ودول الشرق الأوسط، ومن بينها دول مجلس التعاون.
يأتي افتتاح المركز بعد أيّام على تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي هاجم حلف الناتو واصفاً إياه بالقديم الذي عفا عليه الزمن، فضلاً عن تأكيد الرئيس الأمريكي الجديد الذي طالب بإرغام السعودية على دفع أموال لقاء "حماية" أمريكا لها، وهو الأمر الذي يسري على بقيّة الدول.
السؤال الأبرز الذي يطرح نفسه اليوم، وبعيداً عن السجالات السياسية والتحزّب القائم لهذا الطرف أو ذاك، يتعلّق بالنتائج المترتبّة على الحضور العسكري للناتو في دول الخليج الفارسي، خاصّة أن الدول الخليجية وجدت أن الحضور الجديد "سيعزز التعاون بين الجانبين في العديد من الجوانب من بينها التحليل الاستراتيجي والتخطيط للطوارئ المدنية والتعاون العسكري"، كما أنه سيمثل "مركزا حيويا للتعاون بين الحلف وشركائنا في دول الخليج على كافة الأصعدة لاسيما في الحرب ضد الإرهاب".
لا ينتابنا أيّ شكّ أن أضرار هذه الخطوة كبيرة على هذه الدول، ولا نبالغ إن قلنا أن تهديدها يصل إلى مستوى "الأمن القومي" الإقليمي عموماً، والخليجي على وجه الخصوص، ولأسباب عدّة، أبرزها التالي:
أوّلاً: إن تجربة التواجد العسكري للناتو في دول المنطقة بدءاً من أفغانستان وليس انتهاءً بالعراق حيث فشل الحلف الأطلسي في حماية قواعده، فضلاً عن مواجهة الإرهاب، لا تبشّر بالخير للدول الخليجيّة. لا ندري إذا كان تأكيد ترامب أن "الناتو" صار مؤسسة قديمة وأنّ أعضائه لا يدفعون نصيبهم في تمويل موازنته، هو ما دفع بالحلف الأطلسي للبحث عن مصادر تمويل جديدة في مناطق ساخنة، فكانت الدول الخليجية هي الهدف!
ثانيّاً: لا يمكن فصل حضور الناتو، عن الحضور الروسي في المنطقة، لاسّيما في ظل التنافس القائم بين الجانبين على مستوى العالم. حلف شمال الأطلسي "الناتو" الذي تسلّل بين دخان الأزمة الأوكرانية نحو تخوم روسيا، وتحديداً أوروبا الشرقيّة عبر قواعد عسكريّة عدة في استونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا ورومانيا وبلغاريا، يعيد التجربة نفسها اليوم في منطقة الشرق الأوسط بعد الحضور الروسي القوي في الأزمة السوريّة، وبناء قاعدة حميميم، إضافةً إلى حضوره السابق في "طرطوس".
ثالثاً: ما يعزّز هذه الرؤية هو ما نشرته، بالأمس، مصادر مقرّبة من "قوات سوريا الديمقراطيّة" عن مباشرة أمريكا إنشاء قاعدة عسكرية في شمال شرق سوريا، ونشر ألف جندي في قرية "تل بدر" الواقعة على بعد 35 كم من مدينة الحسكة إلى الشمال الشرقي من سوريا، على بعد 70 كيلومترا من الحدود مع تركيا، و 50 كيلومترا من الحدود مع العراق. هذا الكلام يأتي بعد يوم واحد فقط على كلام المتحدث باسم البنتاغون أدريان رانكين —غالاوي، الذي قال: "لأسباب أمنية، نحن لا نكشف عن مكان تواجد القوات الخاصة الأمريكية".
رابعاً: لا ندري حجم التكاليف الباهظة المترتّبة على الدول الخليجية من جرّاء الحضور العسكري للناتو. الرئيس الأمريكي الجديد صاحب رؤية "الخوة الاقتصاديّة" مقابل الحماية العسكرية، قد يفرض مستقبلاً أرقام طائلة على الدول الخليجيّة التي تعاني من أوضاع اقتصاديّة حرجة، لاسيّما في ظل الانهيار النفطي وعجر الميزانيات الذي شمل أغلب الدول الخليجية.
خامساً: لا ينتابنا أي شكّ أن هذه القواعد ستكون منصّة لأيّ انقلاب أو ثورة تحصل في هذه الدول، تماماً كما حصل في قاعدة "إنجرليك" التركيّة إبان الانقلاب العسكري الفاشل. الناتو يستخدم الرؤية الأمريكية المتمثّلة في الوقوف مع الواقف، لكسب مصالحه في أي مرحلة مقبلة، فهل ترضى الأنظمة الخليجية بذلك؟
سادساً: يخشى الناتو أن يكون أمام أزمة كبرى كتلك التي حصلت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وسلب ذرائع تشكيله. عندها تحوّلت عقيدة الحلف من العداء لروسيا إلى العداء لـ"الإرهاب"، وبالتالي لا بد من تهيئة الظروف الاقتصاديّة للحلف بما يرضي ترامب، وفق ما أسلفناه أعلاه.
في الحقيقة، إن الحضور العسكري للناتو في الدول الخليجية، لا يصب في صالح أنظمتها قبل شعوبها، باعتبار أن عسكرة المنطقة أكثر يؤسس لواقع غير مستتب. وفي حين يريد الناتو أن يستخدم الدول الخليجيّة كحصان طروادة لتمرير أهدافه الداخلية، فإن أكثر ما تحتاجه المنطقة هي استراتيجيّة "الأمن الذاتي" التي تتكئ على دول المنطقة فقط، دون أيّ تدخّل خارجي شرقيّاً كان أم غربيّاً.
ندعو الدول الخليجية لمراجعة حساباتها بشكل جيّد قبل الإقدام على أي خطوة متهوّرة لا تصب في صالحها قبل أعدائها، ونأمل أن تكون زيارة وزير الخارجية الكويتي، النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، الشيخ صباح خالد الحمد الصباح إلى طهران لتسليمها الرسالة الخليجية خطوة جديّةً على هذا الطريق، ولكن ليس كلّ ما يتمنّى المرء يدركه.