الخطوة المتهورة التي اتخذها الرئيس اليمني المستقيل والفار عبد ربه منصور هادي، بنقل البنك المركزي من صنعاء إلى عدن وتعيين محافظاً جديداً للبنك مع مجلس إدارة جديد، لن تكون بالمهمة اليسيرة، بل إن هناك شكوك كبيرة حول قدرة حكومة الرياض على القيام بهذه المهمة، إذ يجمع المراقبون أن القرار الذي اتخذه هادي بدعم من السعودية وضوء أخضر أمريكي، لم يستوف متطلباته من الترتيبات المسبقة مع المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي الذي لم يبد أي موقف صريح من القرار برغم محاولات هادي إقناعه، هذا عدا عن الوضع الأمني المتردي في مدينة عدن، الذي يمنع حتى الآن حكومة هادي من العودة إلى اليمن ومزاولة أعمالها من على الأرض.
ويبدو أن حكومة الرياض قد أدركت مبكراً صعوبة القيام بهذه المهمة المقعدة، وأن مجرد إيفاد عدد من الأشخاص إلى دولة الإمارات للتدريب على الأنظمة المصرفية الدولية، وتعيين مقر جديد للبنك المركزي في عدن، لن يكون كافياً لاستلام زمام المؤسسة الاقتصادية الأهم في اليمن، والتي تتولى صرف معاشات حوالي 1.2 مليون موظف يمني، سواء في مناطق سيطرة المجلس السياسي، أو مناطق سيطرة مرتزقة العدوان السعودي، فقد اعترف رئيس حكومة هادي "أحمد عبيد بن دغر" بعدم قدرة حكومته على تنفيذ قرار نقل البنك من دون تعاون حركة أنصار الله، إذ ناشد بن دغر الحركة اليمنية التعاون مع حكومته في تنفيذ القرار.
وقد حافظ البنك المركزي على حياديته خلال فترة العدوان السعودي على اليمن، وذلك بموجب اتفاق "الهدنة الاقتصادية" الموقع بين البنك المركزي في صنعاء والحكومة السابقة (خالد بحاح)، برعاية صندوق النقد الدولي في العاصمة الأردنية عمان في آب 2015، واستمر البنك بصرف رواتب جميع موظفي الدولة على امتداد الأراضي اليمنية طوال 17 شهراً من العدوان السعودي على اليمن، وقد حاولت حكومة هادي في الرياض في عدة مناسبات، نقل البنك المركزي من صنعاء، إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل، نتيجة لرفض البنك الدولي الذي طالب بالإبقاء على البنك المركزي في صنعاء سيما وان البنك يعمل باستقلالية وحياد ويواصل عملياته المالية وصَرْف المرتبات للجميع دون اعتراض أَوْ تدخل من أي جهة.
وقد عمل البنك المركزي من مقره في صنعاء على ضمان واردات السلع الغذائية الأساسية إلى اليمن طوال مدة العدوان، إلا أن تحالف العدوان عمل على عرقلة نقل الفائض من أموال العملات الصعبة من البنوك المحلية في الداخل إلى أرصدة البنك المركزي في الخارج، والتي يحتاج إليها اليمن لضمان واردات السلع الأساسية، ما تسبب بتفاقم الوضع المعيشي والانساني للمواطنين اليمنيين، وطوال هذه الفترة تعمل حكومة الرياض على الترويج لشائعات انهيار الاقتصاد الوطني وافلاس القطاع المصرفي ونفاد الاحتياطي النقدي الأجنبي، وعجز البنك المركزي عن صرف رواتب الموظفين، وذلك لإقناع البنك الدولي للموافقة على نقل البنك المركزي من صنعاء.
ويرى مراقبون أن نقل البنك المركزي إلى عدن لن يمر دون انعكاسات وتأثيرات سلبية، ومن المتوقع أن يترافق ذلك مع إنهيار لـسعر صرف الريال اليمني، وارتفاع مضطرد لأسعار السلع، وانعدام للسيولة من العملة الوطنية، وعجز شبه تام للحكومة في الوفاء بالتزاماتها المالية. وكشف مصدر مقرب من الرئاسة في الرياض أن هادي تلقى تحذيرات من تداعيات إنسانية لقرار نقل البنك من قبل الدول الـ 18 الراعية للسلام، مشيراً إلى أن هادي تجاهل تلك التحذيرات وأصدر قرار نقل البنك بضوء أخضر سعودي بالرغم من كل المحاذير.
هذا الاصرار السعودي على نقل البنك المركزي من عدن، تفسره عدة أسباب، نذكر منها:
أولاً: تخفيف الضغط عن الحدود السعودية، ونقل المعارك مع الجيش واللجان الشعبية من الشمال إلى الجنوب، إذا تتصور السعودية أن نقل البنك المركزي إلى عدن، سيجعل عدن أولوية قصوى للجيش واللجان الشعبية، وبالتالي سيؤدي إلى إبعاد حركة أنصار الله عن الحدود الشمالية وتوجهها نحو الجنوب.
ثانياً: بالرغم من نزيف احتياطات النقد الأجنبي من البنك المركزي اليمني، نتيجة للحصار الذي فرضه التحالف السعودي على اليمن، ووقف صادرات النفظ والغاز وبقية الصادرات اليمنية، وفرض قيود على تحويلات المغتربين اليمنيين في الخارج إلَى الداخل، إلا أن المليارات التي صرفتها السعودية على مرتزقتها في الداخل كان لها دور في تعزيز تلك الاحتياطات بالعملة السعودية والإمَارَاتية وحتى بالدولار، لذلك فإن السعودية تريد نقل البنك المركزي إلى عدن، من أجل الحيلولة دون نقل القطع الاجنبي من الجنوب إلى الشمال وتشديد الحصار على صنعاء ومدن الشمال، وتعميق الانقسام المجتمعي في اليمن.
ثالثاً: تقدّر أرصدة البنك المركزي اليمني في البنوك العالمية بـ 1.2 مليار دولار، تستخدم كودائع لاستيراد المواد الأساسية لليمن، حيث تسعى السعودية من خلال وضع يدها على هذا الاحتياطي، بالتحكم بالجانب المعيشي للمدن في الشمال، وتشديد الحصار الاقتصادي على الشعب اليمني لدفعه للاستسلام والقبول بالاملاءات السعودية.
رابعاً: عرقلة تشكيل حكومة الانقاذ الوطني التي أعلن عنها المجلس السياسي في صنعاء، لتكون بديلة عن حكومة المنفى في الرياض، حيث أن أي حكومة ستكون عاجزة دون البنك المركزي الذي يمثل الرافعة الاقتصادية للبلاد.
هذه المساعي السعودية لاستخدام البنك المركزي كورقة اقتصادية في الحرب، دفعت الشعب للاستجابة الواسعة لنداء قائد حركة أنصار الله السيد عبدالملك الحوثي، الذي دعا كافة أطياف الشعب اليمني للتضامن مع البنك المركزي بهدف "إفشال أهداف التحالف السعودي والحكومة الموالية له بتفكيك مؤسسات الدولة". حيث شهدت المحافظات الشمالية اقبالاً واسعاً من المواطنين من مختلف الأعمار على مراكز البريد للتبرع للبنك المركزي كخيار وحيد لمواجهة محاولات نقل البنك وتأمين مرتبات موظفي الدولة. فهذه الوقفة الشعبية من الشعب اليمني، هي دليل على أن ما عجزت السعودية عن تحقيقه في الحرب ستعجز حتماً عن تحقيقه بالوسائل الأخرى.