الوقت- يعتقد البعض بأن زمن العبودية والاستعباد للبشر قد إنتهى منذ وقت بعيد، لكن الحقائق والأرقام المتوفرة بين أيدينا تشير إلى أن الوقت ما زال مبكراً للقول بأن الحضارة البشرية قد تخلصت من العبودية. ويخبرنا التقرير الأخير الصادر عن منظمة "وولك فري (walk free) الدولية" بأن قرابة 46 مليون شخص في العالم لازالوا يرزحون تحت "العبودية المعاصرة"، وهو رقم أكبر بنسبة 28% من التقديرات السابقة لسنة 2014، ما يشير إلى أن الظاهرة في تزايد.
وتعرف "العبودية المعاصرة" بأنها الحرمان من الحرية الشخصية بغرض الاستغلال، ويشمل هذا التعريف العديد من الممارسات المرتبطة بالعبودية، مثل الاتجار بالبشر، والعمل القسري، وعبودية الدَيْن، والزواج القسري، والاستغلال الجنسي لأغراض تجارية، وبيع الأطفال واستغلالهم في تجارة المخدرات الدولية وغيرها. ويضع مختصون تعريفاً للعبد بأنه شخص محتجز رغماً عنه أو مجبر على العمل عبر العنف أو التهديد أو إساءة إستخدام السلطة. والعبودية في تزايد بسبب تفاقم الضعف نتيجة الفقر والتمييز العنصري والاستعباد الاجتماعي، بحسب تقارير الأمم المتحدة.
واستند تقرير "وولك فري" على بيانات بشأن 167 بلداً مستخلصة من 42 ألف مقابلة في 53 لغة لتحديد عدد البشر المستعبدين وكيفية التعامل معهم من قبل مستعبديهم.
ويستند قياس العبودية، بحسب المنظمة المعنية، إلى مؤشرات مرتبطة بتهريب البشر، والعمالة القسرية، وتجنيد الأطفال، والارتباط بالديون، والزواج القهري، والاستغلال الجنسي التجاري، والقوانين المخلة بحرية الإنسان وحقوقه.
وبحسب التقرير، تضم الهند أكبر أعداد المستعبدين في العالم، برقم يقدر بـ 18.4 مليون شخص، فيما إحتلت كوريا الشمالية، المرتبة الأولى في التصنيف العالمي لمؤشر العبودية من حيث نسبة عدد السكان، التي وصلت لديها إلى 4.4% فرداً مستعبداً. كما برزت دول أخرى، خصوصاً في منطقة آسيا، كبؤر لانتشار ظاهرة العبودية المعاصرة، مثل الصين (3.4مليون) وباكستان (2.1 مليون) وبنغلاديش (1.53 مليون) وأوزبكستان (1.23 مليون).
وكان الرق قديماً مرتبطاً بالأغلال والملكية المطلقة، أمّا في عصرنا الراهن فتتخذ العبودية أشكالاً مختلفة، بداية من تجنيد الأطفال، وتهريب البشر، واستغلال النساء في الدعارة، مروراً بالعمالة الجبرية والقوانين التعسفية، وانتهاءً باستغلال القاصرين في العمل. وقد تتلون هذه الظواهر بثوب القانون، والقبول المجتمعي المحلي أحياناً، إلاّ أنها تظل دوماً تمثل إنتهاكاً لحقوق الإنسان وكرامته.
وتساهم مجموعة من الظروف في إنتاج ظواهر العبودية المعاصرة في العالم النامي، في مقدمتها الفقر والتمييز والإقصاء الاجتماعي. وزادت الحروب والانهيارات الاقتصادية الوضع تفاقماً خلال الآونة الأخيرة.
وتعيش العمالة الآسيوية والأفريقية في العديد من دول العالم إضطهاداً وتمييزاً عنصرياً؛ بسبب القوانين التعسفية، التي تضع شروطاً تعجيزية أمام العمال، مما يعرضهم لخطر الترحيل في أية لحظة، علاوة على إنعدام حقوقهم القانونية، ما يعرضهم، لاسيّما النساء منهم، للاستغلال، في كثير من الأحيان.
ويشهد العالم إنتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، بيد أن تنظيم "داعش" الإرهابي ذهب بعيداً، واسترجع ظواهر العبودية، كما كانت في القرون الوسطى؛ إذ قام بسبي الآلاف من النساء الايزيديات، وعرضهن للبيع كـ "جواري" في أسواق النخاسة مقابل مبالغ مالية.
وربما تكون بعض دول آسيا، كالصين والهند، محط إعجاب الكثير؛ بسبب نهضتها الاقتصادية السريعة، غير أن هناك جانباً مظلماً يقع خلف هذا النمو الاقتصادي، وهو أن منطقة آسيا تعرف أكبر نسبة من العبودية المعاصرة على الإطلاق، وتقول منظمة العمل الدولية إن حوالي 56% من المستعبدين في العالم يتواجدون في دول آسيا.
وتنتشر في منطقة آسيا ظواهر العمالة القهرية، والاتجار بالبشر، والدعارة القسرية، علاوة على إستغلال الأطفال، وكلها ظواهر تتغاضى عنها السلطات في الهند والصين، من أجل التنمية الاقتصادية البحتة.
وبالعودة إلى تقرير منظمة "وولك فري" حول مؤشر العبودية في بلدان العالم؛ سجلت كل من "لوكسمبورغ وإيرلندا والنرويج والدنمارك وسويسرا والنمسا والسويد وبلجيكا وكندا ونيوزيلندا" أدنى معدلات في مجال العبودية المعاصرة.
وأظهرت المؤشرات العالمية عن العبودية المعاصرة أن الأشخاص الذين يرزحون تحت وطأة العبودية يُرغمون على أداء أعمال يدوية في المصانع والمناجم والمزارع أو يباعون للعمل في بيوت الدعارة أو يستعبدون سداداً لدين أو يولدون في أسر مستعبدة.
ويقدر عدد العبيد في موريتانيا بنحو 155600 شخص، أي 4.3 في المئة من مجموع السكان حيث يشيع إنتقال صفة العبودية من جيل لآخر وفقاً لاحصائيات عالمية.
ومعظم من يتم إستعبادهم في موريتانيا هم من البربر السود. وعادة ما يرعى الرجال والأطفال المستعبدون الإبل والأبقار والماعز أو يجبرون على العمل في الحقول. أمّا النساء المستعبدات فيجبرن على القيام بالأعمال المنزلية مثل جلب المياه وجمع الحطب وإعداد الطعام والاعتناء بأطفال الأسياد.
وجرّم 124 بلداً الاتجار بالبشر عملاً ببروتوكول الأمم المتحدة لعام 2003 الرامي إلى تجنب هذه الممارسات ومعاقبتها، خصوصاً تجاه النساء والأطفال، فيما تبنت 96 دولة خطط عمل لتنسيق الرد الحكومي عليها.
وتواجه القارة الأفريقية أكبر التحديات وفقاً للتقرير، في ظل تجنيد القوات المسلحة، والمجموعات المتمردة في الصومال، وأفريقيا الوسطى، الجنود الأطفال، وإكراه كل من زامبيا، وأنغولا، وجمهورية الكونغو الديموقراطية، الأطفال والبالغين على العمل في مناجم خطيرة، فيما تعد نيجيريا أكبر مصدر لتهريب الأفراد إلى أوروبا، حيث تعرضت نساء نيجيريات للاستغلال الجنسي في دول أوروبية بعد خداعهن بالسفر إليها.
وتتسم تجارة الرقيق العصرية بالقسوة التي كانت عليها في القرن التاسع عشر وربما تزيد عليها. وتختلف طريقة إستعباد البشر باختلاف البلدان والمناطق. وفي بعض دول العالم ثمة حكومات تقر الاستعباد، بما في ذلك الصين، عبر معسكرات إعادة التأهيل بالعمل التي لا تزال قائمة رغم إدعاء بكين أنها ألغتها رسمياً عام 2014.
ولا تزال هناك أنماط إستعباد قديمة كالاستعباد بالديْن في الهند ودول آسيوية أخرى والاستعباد الطبقي في موريتانيا بسبب ضعف سيادة القانون في تلك البلدان. كما أن إشتعال الحروب الأهلية وتفشي التطرف عبر أفريقيا والشرق الأوسط جاء بمثابة منعش لتجارة العبيد، عبر تشريد الملايين والرمي بضحايا جدد في أحضان تجار بشر لا تعرف قلوبهم الرحمة.
وتقدر مؤسسة (ووك فري) أن أمريكا تضم نحو 85 ألف إنسان مستعبد، معظمهم هاجروا بشكل غير قانوني وسقطوا ضحايا في براثن تجار البشر، وانتهى بهم المطاف إلى أرباب أعمال إستعبدوهم، وثمة آخرون وقعوا ضحية الاستغلال الجنسي لأغراض تجارية.