الوقت- بعيداً عن التحليلات التي وضعت قضية مشاركة الأزهر في مؤتمر غروزني حول تعريف أهل السنة والجماعة، ضمن دائرة التحالفات الدولية والاقليمية وإيصال الرسائل السياسية، والتي لا ننفيها بالمطلق بطبيعة الحال، إلا أن المؤتمر الذي استضافته العاصمة الشيشانية، سلط الضوء على جانب آخر في غاية الأهمية، يتعلق بالمزاج العام الذي بدأ يظهر لدى الحكومات والشعوب الاسلامية، من رفض النهج الوهابي المتطرف الذي استطال على البلدان الاسلامية بفضل القوة المالية للسعودية، والبحث عن منهج الوسطية والاعتدال الذي لطالما اتصف به الأزهر الشريف، وذلك بعد أن أمتلأ العالم الاسلامي بالنظريات التكفيرية والمتطرفة، التي يجري توظيفها خدمة لاجندات اقليمية ودولية، والتي تدفع الشعوب الاسلامية ثمنها من أمنها واستقرارها.
فالاستقبال الحافل الذي لقيه شيخ الأزهر أحمد الطيب والوفد المرافق له في الشيشان، لم يكن حالة طارئة أملتها الظروف السياسية كما يدعي البعض، بل هو مؤشر واضح حول افتقاد هذه الدول والشعوب لدور الأزهر، وتعويلها عليه من أجل التصدي لدعوات التطرف والتكفير، خاصة وأن الأزهر مع ما يمتلكه من ارث تاريخي، هو الأقدر على مواجهة هذه الدعوات، حيث ظل لأكثر من ألف عام يمثل المرجعية الأولى في العالم لأهل السنة والجماعة.
ولعل الحفاوة التي لقيها شيخ الأزهر في زيارته إلى أندونيسيا في فبراير/شباط الماضي، تمثل شاهداً آخراً، عن أن العالم الاسلامي بدأ يحن إلى دور مؤسسة الأزهر التي تتميز بالسماحة والاعتدال واحترام التعددية الدينية والمذهبية والفكرية وتدعم التعايش السلمي والحوار والمواطنة العالمية، وذلك بعد الفوضى التي عمت العالم الاسلامي جراء التوظيف السياسي للدين، ودعم الحركات المتطرفة لاستخدامها في اجندات سياسية، بدءً من "الجهاديين" وطالبان في أفغانستان، وصولاً إلى "داعش" وبقية المنظمات الارهابية في الشرق الأوسط.
وكانت السنوات الماضية وتحديداً منذ مطلع القرن الحالي قد شهدت تراجعاً لدور الأزهر في محيطه العربي والإسلامي سواء من ناحية المؤسسة الدينية، أو المؤسسة الأكاديمية المتمثلة بجامعة الأزهر والتي تدرس مختلف العلوم، الأمر الذي أعطى فرصة لدول ومؤسسات دينية تابعة لها، وتحديداً في السعودية، لمحاولة ملء الفراغ الحاصل، من خلال نشر النهج السلفي الوهابي، ومحاولة حصر المذهب السني به، وتوظيف هذا الوضع لتكريس السعودية في زعامة العالم السني، مستعينة بامبراطوريات اعلامية ضخمة، وقدرات مالية هائلة، ودعم أمريكي واضح، ما أدى إلى ظهور أفكار جديدة أفرزت وجه عنيف ورجعي للدين الحنيف، نتج عنه جماعات لاترى سوى الدم والسلاح سبيلا للدعوة والتغيير واعتبار الآخر " كافرا" لا يستحق حوارا ويجب قتله وتدميره.
ولا شك بأن هذه القيادة غير المؤهلة للعالم الاسلامي السني والتي تفتقد للموروث الثقافي والحضاري، وتخضع لسياسات حكام، تربطهم علاقات وثيقة بالقوى الامبريالية والاستعمارية في العالم، قد أساءت كثيراً إلى صورة المذهب والدين، وجعلت الشعوب الاسلامية، تبحث من جديد عن دور الأزهر في إحياء الوسطية، ونبذ العنف والتكفير، والدعوة إلى الاسلام وفق نهج "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة"، بعيداً عن أقاويل "بالذبح جيناكم" التي يتغنى بها أتباع المذهب الوهابي.
وحري بالذكر أن تنظيم داعش الارهابي، وأخوته من التنظيمات الارهابية المتمددة في المنطقة، تعتمد في مناهجها التدريسية على كتب صادرة في السعودية، أبرزها كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب الذي يصفه أتباع المدرسة الجهادية بـ"المجدد"، كما يظهر تأثير المدرسة الوهابية جليا على سلوك أعضاء التنظيم الذين فجروا مقامات وقبورًا لصحابة في سوريا والعراق، وحطموا تماثيل وآثار تعود للحضارة الآشورية في متحف الموصل، حيث يجمع الخبراء في شؤون الجماعات الإسلامية أن داعش و الوهابية "وجهان لعملة واحدة" مع "الاختلاف في الاستراتيجيات وأولويات العمل".
ومن هنا كان القرار الذي تبناه مؤتمر غروزني في الشيشان وبرعاية الأزهر بحصر أهل السنة والجماعة في كل من "الاثرية، والاشعرية، والماتريدية"، وعدم اعتبار السلفية الوهابية جزء منه، قرار تاريخي من حيث تصويب الانحراف الحاد والخطير الذى طال مفهوم أهل السنة والجماعة، إثر محاولات اختطاف المتطرفين لهذا اللقب الشريف وقصره على أنفسهم وإخراج أهله منه.
وبالطبع لدى الحكومات العربية ما يسوغ قلقها من التمدد الوهابي، حيث أن جنود داعش العائدين إلى بلادهم، يشكلون خطراً أمنياً وشيكاً على مجتمعاتهم، فهم بمثابة أوكار ارهابية نائمة ما تلبث أن تتحرك عندما تتهيأ لها الظروف، ولهذا رحبت الدول الاسلامية من بينها دول تعتبرها السعودية حليفة، بمؤتمر غروزني، من ضمنها مصر والمغرب والإمارات، في دلالة على أنها قد ضاقت ذرعاً بمغامرات حكام السعودية وتسييسهم للدين، وارتداد مخاطر هذا التسييس على دولهم، وهذا كله يصب في مصلحة استعادة الأزهر الشريف مكانته التاريخية في مرجعية أهل السنة والجماعة.
فيبدو أن العالم الاسلامي، بدأ يلح اليوم أكثر من أي وقت مضى على دخول الأزهر بقوة إلى ساحة مواجهة مناهج التكفير، والتيارات المتطرفة التي انتشرت حول العالم بدعم إقليمي ودولي، فالعالم الاسلامي يريد أن يسترجع أيام الأزهر ودور الإمام الأكبر وهو المنصب الذي تشرف به شيوخ كبار من أمثال الشيخ محمد مصطفى المراغي والبشري والعطار ومصطفى عبد الرازق وشلتوت وعبد الحليم محمود وجاد الحق.
من المؤكد أن العاصمة الشيشانية لن تكون آخر عاصمة اسلامية تستقبل شيخ الأزهر، بل سيكون الأزهر وشيخه على موعد مع العديد من الدعوات من كافة الدول الاسلامية خلال الفترة القادمة، لأنها بحاجة إلى دور الأزهر الوسطي لمواجهة تداعيات التطرف والارهاب.