الوقت- يجري الحديث عن علاقة واشنطن بإنقلاب تركيا، ومساهمتها في دعم الإنقلابات في أمريكا اللاتينية وهو ما يُعتبر قديماً بالنسبة للسياسة الأمريكية. في وقتٍ تُعتبر هذه السياسات سياسات أمنية تستند لعمل إستخباراتي دقيق، قد تحصل وتُنفَّذ دون إبقاء دليل. لكن مجريات الأحداث ومواقف الأطراف، تعود لتُبيِّن حقائق الأمور. ومنذ أيام، خرج الرئيس الفنزويلي "نيكولاس مادورو"، ليستبق أي محاولة إنقلابٍ بالتهديد، مؤكداً أن المعارضين له سيترحمون على سياسة أردوغان التي اعتبرها البعض قمعية ضد الإنقلابيين. فماذا في مجريات الوضع الفنزويلي؟ وكيف دعمت أمريكا الإنقلابات هناك تاريخياً؟ ولماذا تقوم بذلك؟
الرئيس الفنزويلي ومحاولة إستباق إنقلابٍ مُرتقب
أكد الرئيس الفنزويلي "نيكولاس مادورو" يوم الجمعة المنصرم، أن أي محاولة إنقلاب في بلاده ستُقابل برد أقسى مما حدث في تركيا بعد محاولة الإنقلاب الفاشلة منتصف الشهر الماضي. وأشار مادورو الى أن عملية التطهير التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بعد المحاولة الفاشلة للإنقلاب ستبدو مثل لعب الأطفال مقارنة بما ستفعله الثورة البوليفارية إذا حاولت المعارضة القيام بشيءٍ مماثل في فنزويلا. وتعتزم المعارضة الخروج في مسيرة ضخمة في كراكاس في الأول من أيلول للمطالبة باستفتاء يهدف لتقليص فترة ولاية مادورو وهي ست سنوات تنتهي في 2019.
وفي المسؤولية حول تحريك المعارضة، اعتبر مادورو أكثر من مرة أن واشنطن هي التي تقف خلف هذه الإنقلابات. وهو ما لا يمكن إستبعاده عن الطرف الأمريكي، حيث خرج مرشح الرئاسة دونالد ترامب، ليُفجِّر قنبلةً إعلامية منذ أيام، عندما صرَّح في أحدث تغريداته، عن إمتلاكه دلائل تُثبت علاقة 13 ضابطاً في المخابرات المركزية الأميركية بدعم الإنقلاب الفاشل في تركيا. مُعيداً السبب وراء ما اعتبره بالخطأ الفادح الذي يمس مصالح أمريكا في الشرق الأوسط، لقيادة أوباما الفاشلة. مضيفاً أنه سيكشف أسماء هؤلاء الضباط قريباً. وهو ما أعاد النقاش، حول علاقة واشنطن، بدعم الإنقلابات في الدول.
أثر ممانعة فنزويلا التاريخية للسياسة الأمريكية: دعم واشنطن لمعارضي تشافيز
ليست واشنطن بعيدة عن محاولات الإنقلاب التي تحصل في الدول الممانعة لها. وهو ما ينطبق على تاريخ العلاقة بين أمريكا وفنزويلا، والتي كانت تتسم دوماً بالتوتر. فيما بدا ذلك واضحاً في عهد الرئيس الفنزويلي السابق "هوغو تشافيز". فبعد وصوله الى السلطة عام 1998، قام تشافيز، بالعمل على إحداث تغيرات جذرية في سياسة فنزويلا، على كافة الأصعدة، لا سيما فيما يخص سياستها النفطية. وهو ما لم يُعجب واشنطن، خصوصاً بعد أن أصبحت فنزويلا من دول الممانعة لأمريكا. مما ساهم بردة فعل أمريكية سعت لإستخدام الإنقلاب ضد تشافيز عبر دعم المعارضين له في الجيش الفنزويلي. حينها حدث إضرابٌ في شركة "بترول فنزويلا" الأساسية، ليلحق به إنقلابٌ من قبل ضباط الجيش، تضمنه إعتقال تشافيز. بعد ثلاثة أيام فقط، فشل الإنقلاب وعاد تشافيز الى منصبه.
فنزويلا الحالية: السفارة الأمريكية دبَّرت انقلابات عديدة ضد مادورو
حالياً، وفي عهد الرئيس اليساري "نيكولاس مادورو"، تمضي واشنطن قُدماً في سياستها في دعم المعارضات والتدخل في شؤون الدول. ففي الشهر الثاني من العام الحالي، أعلن مادورو عن اكتشاف محاولة إنقلاب، يقف وراءها عدد من ضباط سلاح الجو، كانوا ينوون استخدام طائرة حربية لمهاجمة نقاط إستراتيجية في العاصمة كاركاس. واتهم مادورو واشنطن حينها، بالوقوف وراء المحاولة، عبر التعاون مع السفارة الأمريكية، التي قامت بوضع سيناريو الإنقلاب بحسب مادورو.
قبلها بعام واحد، كشفت السلطات الفنزويلية عن خيوط إنقلاب أحبطتها أجهزة المخابرات، كان يقودها النائب عن حزب العدالة "أولاخوليو بورخيس" بالإضافة الى عدد من الضباط. وبعد أن تم اعتقال الضباط المشتبه بهم ومصادرة حواسيبهم وبناءاً للتحقيقات معهم، حصلت الحكومة على معلومات تفصيلية حول مسار العملية الإنقلابية والتي كانت تهدف لإغتيال الرئيس مادورو. كما تضمَّنت أهداف الإنقلاب نقاط مهمة مثل القصر الجمهوري، وزارة الدفاع، قناة تيليسور، مديرية المخابرات العسكرية، المجلس الوطني الإنتخابي، النيابة العامة، ومركز ساحة فنزويلا. فيما أكدت السلطات الفنزويلية حينها، تورط واشنطن بهذه المحاولات، حيث أنّ السفارة الأميركية في كاركاس، قامت بمنح تأشيرات دخول الى أراضيها للضباط المشاركين في الإنقلاب، لضمان لجوئهم اليها في حال فشل العملية.
لماذا تدعم واشنطن الإنقلابات؟
بالنسبة لأمريكا، فهي تبني سياساتها الخارجية من منطلق مصالحها، ولو تبدَّلت أنظمة نفس الدول، فلا مشكلة. فعلاقة واشنطن بحلفائها تنطلق من مبدأ واحد فقط وهو المصلحة، والتي هي معيار إستمرار أو تطور العلاقة. وهنا نُشير للتالي:
أولاً: إن مسألة إرضاخ الأنظمة، هي أهم سياسات واشنطن الإستراتيجية في نسج علاقاتها. حيث نجد أن حلفاء واشنطن، دائماً ما يكونون بحاجة لها لتأمين إستمراريتهم، وهو ما ينطبق على الدول الخليجية والأوروبية، الى جانب الكيان الإسرائيلي بالإضافة الى تركيا وتحديداً قبل الإنقلاب الأخير. لنقول أن حاجة دول الخليج الفارسي لتامين الأمن مقابل النفط، وحاجة تل أبيب لتأمين الشرعية والدعم الدولي والعسكري، وحاجة تركيا لتأمين الدور الإقليمي، كلها أسباب ساهمت في الرضوخ لأمريكا. لكن إنتفاء الحاجة للعلاقة، من قِبل واشنطن أو تمرُّد الطرف الآخر، كفيلٌ بإحداث توترٍ يضرب العلاقة، لكنه سيؤدي حتماً لعقابٍ أمريكي. وهو ما برز مع الطرف التركي الذي تمرَّد بوضوح على أمريكا. فيما يُعتبر تدهور العلاقة بين السعودية وأمريكا، خيرُ مثالٍ على التوتر الذي يكون بسبب تراجع حاجة أمريكا للطرف الآخر، خصوصاً بعد اكتفاء أمريكا نفطياً.
ثانياً: تتميَّز أمريكا اللاتينية وتحديداً فنزويلا والبرازيل، في أسباب توتر علاقتها مع واشنطن. فالسبب منذ البداية يعود لمساعي أمريكا إرضاخ هذه الدول، حيث سعت لتكريس التبعية الإقتصادية والسياسية، لكنها فشلت في محاولاتها. فالظروف الإقتصادية الإيجابية التي طبعت ما بعد العام 2000 في أمريكا اللاتينية، ساهمت في أرتفاع قدرة الأطراف اليسارية الإشتراكية، وأثرها محلياً وعالمياً. مما ساهم في ظهور قدرة على الممانعة، اتصفت بها هذه الدول، خصوصاً في سياساتها الخارجية. لا سيما عبر تأسيس فنزويلا لتحالف "ALBA"، أو ما يُسمى بـ"التحالف البوليفاري"، الى جانب مساهمة البرازيل، وتحديداً الرئيس السابق "لولا داسيلفا"، في إنشاء محور دول الجنوب، والذي هدف لربط دول أمريكا الجنوبية بدول أفريقيا والعالم العربي. فيما شكَّلت حاجة واشنطن لنفط هذه الدول، إحدى أسباب الحذر الأمريكي. لكن ذلك لم يمنعها من تدمير مجتمعات هذه الدول، عبر دعم المافيات الداخلية، ومحاولة ضرب أنظمتها، عبر دعم المعارضات والإنقلابات كما أبرزنا أعلاه.
إذن، تدعم أمريكا الإنقلابات، لأسبابٍ أصبحت واضحة. فيما الهدف واحد، وهو إبقاء الهيمنة الأمريكية على العالم ومقدرات الشعوب. و يمكن القول بأن أمريكا اللاتينية، والتي رفضت الرضوخ مراراً لسياسات واشنطن، تعيش اليوم حالة من الصراع مع قوى الإمبريالية. لتكون الأيام المقبلة، كفيلة بمعرفة النتائج، والتي حتماً لن تكون لصالح أمريكا.