الوقت- اتجهت التطورات العالمية خلال السنوات الاخيرة نحو المواجهة بين أمريكا وروسيا في مختلف المجالات والقضايا وخاصة في الشرق الاوسط، ورغم ان هذه المواجهة لم تأخذ شكلا عسكريا بسبب معرفة نتائجها التي لايمكن التكهن بها في حال حدوثها لكنها قد ظهرت على شكل حروب بالوكالة اتسعت رقعتها كثيرا في الشرق الأوسط، ونظرا الى توسع هذه المواجهة وتفاقمها فإن دراسة التوجهات السياسية لهاتين الدولتين تكتسي أهمية بالغة.
ان أمريكا لاتتبع في الوقت الراهن سياسة خارجية موحدة ذات مبادئ ثابتة في كافة مناطق العالم وخاصة في الشرق الاوسط وكما رأينا فإن هذه السياسة ليست متساوية في كل من العراق وسوريا مثلا، لكن المبدأ الثابت للسياسة الأمريكية حيال العراق وسوريا هو ان واشنطن لاتريد تحمل تكاليف مالية وبشرية باهظة في هذه المناطق من جديد والدخول في حرب جديدة.
ان أمريكا التي إحتلت العراق وتحملت تكاليف مالية وخسائر بشرية كبيرة نتيجة لذلك ترغب في ارساء نوع من الاستقرار في العراق والحفاظ على وحدة ترابه إذا أمكن، لكن أمريكا ليست لديها نفس السياسة في سوريا، ونظرا الى الدخول الروسي المباشر في هذه القضية وتحول سوريا الى ساحة تقابل بين واشنطن وموسكو وعدم رغبة واشنطن في خسارة هذه المنافسة المهمة عمد الأمريكيون الى ادخال كافة حلفائهم الإقليميين في الساحة السورية.
ومن جهة أخرى نجد ان أهم أهداف السياسات الروسية الراهنة هي مواجهة الغرب وخاصة أمريكا في المناطق القريبة والمحاطة بروسيا واعادة احياء القوة الروسية حسب رؤية ونظرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتجربته الشخصية في التعامل مع امريكا، وقد أوصلت هذه المواجهة علاوة الى آسيا الوسطى والقوقاز الى الشرق الأوسط أيضا.
ورغم وجود بعض المحللين الذين يفسرون السياسة الروسية حسب المبادئ النظرية للعلاقات الأوراسيوية أمثال "ألكساندر دوغين" لكن عدم الثقة بأمريكا والمقاومة أمامها تتغلب على هذه النظريات، وقد رأينا كيف أدى القلق الروسي ازاء توسع خطر التطرف نحو الأراضي الروسية ودول آسيا الوسطى والقوقاز الى حدوث أول تدخل عسكري روسي جدي في العقود الأخيرة خارج نطاق أراضي الاتحاد السوفيتي السابق بعد الغزو السوفيتي لأفغانستان، وهذا التدخل يمكن ان يسري الى باقي المناطق التي تعيش أزمات.
ان سوريا اليوم تقع وسط لعبة شد الحبال الأمريكي الروسي ورغم الاتفاقيات الحاصلة بين الجانبين لكن الخلافات في وجهات النظر لازالت مستمرة فرغم الآمال التي تم إحياؤها بعد الاتفاق بين موسكو وواشنطن وصدور القرار الدولي رقم 2254 في ديسمبر 2015 لكن الحقائق على الأرض أثبتت ان لأمريكا وروسيا أهدف متفاوتة ومتمايزة في سوريا.
ورغم ان إحياء سباق التسلح الأمريكي الروسي أو تجدد الحرب الباردة بين الجانبين وتكرارها في سوريا يبدو احتمالا ضعيفا في الوقت الحالي لكن لايختلف إثنان ان أمريكا هي قوة عسكرية عظمى تتمتع بحق الفيتو وهي تستعى دوما الى تحجيم منطقة النفوذ الروسي وقدرات موسكو على المناورة في الساحة الدولية، وفي المقابل إذا أرادت روسيا الحفاظ على تمايزها فعليها ان لاتخسر أي من أدوات قوتها بل تزيد من قدراتها مع مرور الزمن.
ان الأوضاع التي ذكرناها بالإضافة الى زوال أسباب العداء الإيديولوجي بين الطرفين وكذلك حاجتهما الجدية لاستمرار الأجواء الودية القائمة بينهما تسببت بحدوث نوع من التعقيد المتزايد في العلاقات الثنائية بين البلدين، وقد رأينا ان طبيعة العلاقات بين هاتين القوتين في يتعلق بالقضايا الخلافية قد تحولت من الإشتباك العسكري غير المباشر إلى توافقات محدودة ولذلك يبدو ان العلاقات بين البلدين ستستمر متذبذبة في المدى القريب على الأقل وسيستمر الجانبان في السعي لإضعاف قدرات ومكانة كل طرف لآخر بإستخدام شتى الطرق غير العسكرية.
وأخيرا يجب القول ان الأوضاع السائدة حاليا لم تجلب لمعظم دول المنطقة سوى الأزمات والحروب وإنعدام الأمن كما ان المواجهة بين قطبي الغرب والشرق قد أدت الى إشتعال التنافس بين الدول الإقليمية الحليفة لهما حول القضية السورية والعراقية وغيرها وتسببت بإشتداد الأزمات الإقليمية.