الوقت- شكَّل التوتر صفةً شبه دائمة على العلاقات الأمريكية التركية. وهو ما ينطبق اليوم، على فترة ما بعد الإنقلاب العسكري الفاشل في تركيا. خصوصاً بعد أن خرجت محكمة الجزاء، بقرارٍ اتهاميٍ واضح، بضلوع المعارض الإسلامي فتح الله غولن، بالمسؤولية خلف الإنقلاب، وذلك بدعمٍ أمريكي أمَّنته المخابرات الأمريكية. لكن الأمر الأبرز والذي يشغل أوساط المُحللين، يتعلق بمدى إمكانية استجابة واشنطن للطلب التركي، بتسليم غولن. وفي حين يبدو واضحاً إصرار أمريكا على إعطاء المنحى القانوني الأهمية، تحاول تركيا فرض تحويله سياسياً. فما هي السيناريوهات المُتوقعة من قبل الطرف الأمريكي؟
القرار الإتهامي التركي بحق غولن وربطه بأمريكا
صدَّقت محكمة الجزاء الرابعة في العاصمة التركية أنقرة، يوم الجمعة المنصرم، اللائحة الإتهامية الموجهة ضد منظمة الكيان الموازي والتي يتزعمها "فتح الله غولن". فيما جاء في القرار الإتهامي، اعتبار المنظمة وزعيمها، يعملان تحت إمرة واشنطن، ووكالة الإستخبارات المركزية. وذكرت اللائحة، التي أعدتها النيابة العامة بحق 73 مشتبهاً بينهم غولن، والمتهم بالوقوف خلف محاولة الإنقلاب الفاشلة في تركيا، أن عملاء من وكالة الإستخبارات المركزية، يعملون على التغلغل داخل دول مختلفة حول العالم، وجمع معلومات إستخباراتية تحت ستار مدارس تابعة للمنظمة الإرهابية التي يتزعمها غولن في تلك الدول، بحسب المحكمة. حيث اعتبرت أن غولن، يعيش في بنسلفانيا، تحت رعاية أمريكا، وهو ما يدل على وجود مصالح مشتركة، بين المعارض التركي وأمريكا. ولم تكتف المحكمة بذلك، بل اعتبرت أن غولن يقوم بجمع المال عبر خداع الأتراك بإسم الدين، ويتبرع بالأموال لخدمة المصالح الأمريكية كالإنتخابات الرئاسية ومجلس الشيوخ. فيما اعتبرت أن غولن يمتلك شبكة من آلاف القضاة والمدعين العامين، داخل المؤسسة القضائية التركية، تقوم استغلال السلطة العامة في تركيا، لتحقيق منافع شخصية وخاصة بالمنظمة، وعرقلة القرارات التي تستهدفها بشكل مباشر.
التوتر التركي الأمريكي
بعد حصول الإنقلاب العسكري، قامت تركيا بإتهام المعارض فتح الله غولن، بمسؤولية الإنقلاب، وطالب المسؤولون التركيون، واشنطن بإعادة غولن. وهو ما صرَّح به رجب طيب أردوغان صراحةً. مما جعل واشنطن، ترد عبر إنكارها دعمها للإنقلاب، ومطالبتها السلطات التركية بإعتماد المصداقية والمهنية في القضايا الإتهامية، وإرسال طلب رسمي يتضمن دلائل، تدرسه واشنطن. فهل يمكن أن تُسلم أمريكا المعارض فتح الله غولن، للسلطات التركية؟
إن الإجابة على السؤال، تجعلنا نعرض إثنين من السنياريوهات المتوقعة. وهو ما يمكن ذكره بالتالي:
السيناريو الأول:
إن العلاقة بين تركيا وأمريكا كانت ولفترة طويلة استراتيجية، وهو ما تفرضه الجغرافيا السياسية، التي تتمتع بها تركيا. لذلك فقد تقف أمريكا عند هذه النقطة، وتقوم بإعادة غولن من منطلق جعله ضحية إعادة دفع العلاقات المتوترة الى الأمام. خصوصاً بعد أن باتت أنقرة، بعيدة عن التوجهات الأمريكية في الآونة الأخيرة، بسبب الخلافات حول الملفات السياسية في المنطقة. فيما شكَّل ملف الأكراد، نقطة الخلاف المركزية. لكن عدداً من العقبات، تجعل هذا السيناريو، بعيداً عن التنفيذ، مما يفرض إمكانية حصول سيناريو آخر.
السيناريو الثاني:
إن المعيار الذي تتعاطى على أساسه واشنطن، هو قائم على مصالحها الإستراتيجية، وتحديدها لأهمية دور الأطراف في السياسة الدولية. كما أن السياسة الأمريكية، لم تهتم يوماً بمبدأ سياسي لبناء علاقتها مع الدول أو الأطراف، بل كانت تنقلب على حلفائها حين تجد مصلحة في ذلك. وهو ما يمكن أن يحصل مع الطرف التركي اليوم، لا سيما أنه حصل قبل ذلك. فالمشكلة تكمن في عدد من الأمور المهمة، والتي يجب تسليط الضوء عليها، وهي على الشكل التالي:
- إن العلاقات بين أنقرة وواشنطن متوترة في الأساس، مع وجود نظرةٍ إستعلائية طبيعية من قبل الطرف الأمريكي تجاه تركيا. حيث لم يحصل أن احترمت واشنطن الطرف التركي كحليف لها يوماً، أو أخذت مصالحه القومية بطريقة جدية، على الرغم من مناداتها بذلك.
- يُشكل فتح الله غولن، ورقة سياسية مهمة لواشنطن. كونه من المعارضين السياسيين للنظام. وهو الأمر الذي يدفع أمريكا، للتعاطي مع المسألة من منطلق مصلحتها السياسية، والتي قد تفرض عدم التضحية بهذه الورقة، خصوصاً أن ذلك يعني إنهيار الثقة، بين أمريكا وكافة المعارضين السياسيين الذين تحميهم واشنطن، خدمةً لمصالحها. مما يُعرِّض مصالح أمريكا الإستراتيجية للخطر.
- إن السلوك الأمريكي في ملف غولن منذ البداية، كان سلوكاً يُعطي الإجراءات القانونية، الإهتمام الأكبر. مما يعني أن واشنطن، قد تستخدم ذلك كمُبرِّر في مصالحها السياسية. وهي طالبت تركيا بتقديم طلب رسمي، مقرون بالدلائل.
بناءاً لما تقدم، يمكن الوصول الى نتيجة، أنه من المُستبعد قيام واشنطن بتسليم غولن للسلطات التركية بحسب السيناريو الثاني. فهي تريد جَعل تحوليه، عملية قانونية خاضعة لمعاهدة تسليم المجرمين. فيما تُطالب تركيا بتحويله سياسياً لسلطاتها. وهو الأمر الذي ترفضه واشنطن حتى الآن، مُصرة على اللجوء للقانون. مما يعني إمكانية قيام واشنطن، في حال اللجوء للقانون، بتبرئة غولن، خدمةً لمصالحها السياسية، ومراعاةً لمشاعر بعض الرأي العام التركي. فيما ستكون الدوافع الإنسانية، واحترام حقوق الإنسان، المُبررات التي ستلجأ لها أمريكا كعادتها.
من غير الواضح حتى الآن السلوك الأمريكي المُقبل. فيما ستحدد ذلك، مصالح واشنطن الدولية. فالفرصة قائمة أمام أمريكا، لإجراء إنعطافةٍ في العلاقة مع تركيا. فيما لا يُعتبر ذلك، مُتناغماً مع الطبيعة الأمريكية الإستعلائية حتى في السياسة. أما ورقة المعارضين السياسيين، فهي ورقةٌ ثمينة، لا تُفرِّط بها أمريكا، إلا إذا كانت النتيجة أثمن. والأيام المقبلة هي التي تُحدِّد منحى السلوك الأمريكي.