الوقت- تمر علاقات السعودية بتيار المستقبل اللبناني وبزعيمه النائب سعد الحريري بمرحلة حساسة، إذ باتت الخلافات بين الطرفين تطفو للعلن، وأصبح الاختلاف في وجهات النظر السياسية بين الطرفين عاملا يهدد العلاقة القديمة التي جمعت تيار المستقبل اللبناني مع الرياض، ورغم أن السياسيين السعوديين وقيادات تيار المستقبل يحاولون إخفاء خلافاتهم والتعتيم عليها، إلا أن المؤشرات السياسية تدل على وجود شرخٍ كبير وعميق بين تيار المستقبل وبين صناع القرار في الرياض.
نقلت الإذاعة الفرنسية مؤخرًا خبرًا مفاده أن شركة "سعودي أوجيه" تتعرض لأزمة مالية كبيرة جعلتها عاجزة عن دفع أجور 56 ألف موظف لديها منذ شهور، وقد أشارت الإذاعة الفرنسية أن الأزمة بدأت منذ عام 2013 إلى أنها لم تخرج للعلن بسبب خوف الموظفين من الطرد إذا ما تحدثوا عن الأمر، ولكن الحقيقة غير ذلك، إذ أنه لم يكن مسموحًا وقتها للإعلام أن يتحدث عن أزمة الشركة المالية، وكانت السلطات السعودية ترمم ميزانية الشركة وتمنعها من الإنكسار، وخاصة أن جزءًا من الشركة يعود لعبد العزيز بن فهد آل سعود الذي كان يساند الشركة بشكل كبير.
ما تسبب بإعلان افلاس الشركة وانهيارها اقتصاديًا هو توقف الدعم السعودي لها بالإضافة إلى أن العائلة الحاكمة في السعودية أعطت الضوء الأخضر للإعلام ليفعل فعلته، حتى أن ولي ولي العهد محمد بن سلمان أعلن شخصيًا أن الشركة المملوكة من آل الحريري تواجه صعوبات مالية وأن الحكومة السعودية تقوم بالسداد عنها، وهذا مؤشر واضح على نشوب خلافاتٍ بين سعد الحريري والرياض، وخاصة أن ابن سلمان أكد في مقابلته مع صحيفة "بلومبيرغ" أن الحكومة السعودية "لم تتلقى أية شكاوى من المتعاقدين مع "سعودي أوجيه" أو العاملين فيها.. ولكن إذا تم اتخاذ إجراءات قانونية، فلا شك بأن الحكومة ستقوم بحمايتهم"، وكلام محمد بن سلمان ليس كلامًا بين حلفاء، فهو أقرب إلى أسلوب شخصٍ يريد الانتقام والضغط على الحريري وتوجيه إهانة سياسية واقتصادية له.
الخلاف بين السعودية وسعد الحريري لا يتعلق بشركة "سعودي أوجيه" بتاتًا، فالسعوديون لا يعيرون المشكلات الاقتصادية الكثير من الاهتمام، عدا كون شركة "سعودي أوجيه" صغيرة بالمقايسة مع ما يملكه السعوديون من شركات ورؤوس أموال ضخمة، ورغم هذا يحاول السعوديون جر الخلاف السياسي الذي نشب بينهم وبين الحريري إلى كافة الصعد والمستويات وذلك للضغط على تيار المستقبل بشكل أكبر وأكثر فاعلية.
تعود أولى بوادر التوتر بين الجانبين إلى أواخر صيف العام الفائت بعد دخول موسكو في المعركة ضد تنظيم داعش الإرهابي بشكل مباشر، فمشاركة القوات الروسية إلى جانب الجيش السوري في العمليات العسكرية ضد الإرهاب كانت بالنسبة للرياض ضربة قوية، وشعر السعوديون أن مصالحهم في سورية ومخططاتهم في خطر، لذلك حاولوا جاهدين التعكير على موسكو، فهددوا آنذاك بدخولٍ بري كما اتخذوا خطوات كثيرة في هذا المجال، وفي هذه الآثناء كان الحريري يشيد بالدور الروسي في المنطقة عمومًا وفي سورية خصوصًا وقال الحريري أنه يأمل أن يكون للروس دور في لبنان أيضًا، وهذا كان بمثابة الضربة الأولى التي تلقتها الرياض من سعد الحريري.
رغم أن الموقف السعودي من دخول القوات الروسية إلى سورية تعارض مع موقف الحريري إلا أن الرياض منعت الخلاف هذا من أن يتحول إلى قطيعة سياسية، وتجاوزت الأمر على مضض، مواسية نفسها بأن الحريري هو الأمل الوحيد لتنفيذ مشروعها في لبنان والذي يقوم على محاصرة حزب الله داخليًا وخارجيًا وإدخاله في معركة سياسية وعسكرية تؤدي إلى انهياره، ولهذا كانت تطالب الحريري بتنفيذ هذا المخطط، إلا أن الحريري كان يواجهها بأنه يحتاج إلى ذريعة لمواجهة حزب الله.
في منتصف شهر أذار/مارس من العام الجاري استطاعت السعودية كسب تأييد بعض الدول العربية لتعلن أن حزب الله منظمة إرهابية، آملةً أن يكون هذا كل ما يريده الحريري حتى يقف في وجه حزب الله، ولكن السعودية صُدمت عندما رأت أن الحريري لم يحرك ساكنًا واتخذ منحى سياسي مخالف لرغبة السعودية ومعارض لها، وهذا هو جوهر الخلاف الذي تسبب بغضب الرياض من الحريري الذي اعتبر أن الحل في لبنان يكمن بالحوار بين تيار المستقبل وحزب الله، وتابع سعد الحريري الجلسات الحوارية التي تجمع تياره مع حزب الله اسبوعيًا للوصول إلى توافق، وهذا بمثابة رفض تيار المستقبل لقرار السعودية، وإلا ما كان الحريري ليتفاوض مع من يعتبرهم إرهابيين!.
هذا كان بمثابة ضربة موجعة للسعودية التي انكشفت وانكشف تتدخلها في لبنان وفق أهوائها، فالخطة كانت تقضي بأن يتبنى الحريري القرار السعودي، فتظهر الرياض على أنها داعمة لإرادة الشعب اللبناني، ولكن الحريري بفعلته أظهر السعودية بمظهر المخرب للحلول في لبنان، وهذا ما أغضب السعودية وجعلها تفكر بالانتقام من الحريري والوقوف في وجهه.
لم تبدأ السعودية حربها ضد سعد الحريري إلا بعد تيقنها من أنه خرج عن السكة التي رسمتها له، وقد تيقنت الرياض من أن الحريري لن ينفذ رغباتها بعد أن تواصل مؤخرًا مع روسيا وطلب منها الوساطة مع الرئيس السوري بشار الأسد ليقوم بإقناع السيد حسن نصر الله بتخفيض سطح مطالب حزب الله (وللتنويه قوبل الطلب الروسي برفض من دمشق التي اعتبرت أن قرار حزب الله بيده)، وهذا كان بمثابة إشارة فسرتها السعودية بعدم رغبة الحريري بسلوك الدرب السعودي الهادف إلى مواجهة حزب الله عسكريا والضغط عليه سياسيًا بتهمة "الإرهاب".
يمكن اعتبار الهجمة التي تشنها السعودية على سعد الحريري بأنها نتيجة طبيعية للخلافات الدائرة بين الطرفين، فالسعودية لا تقبل من الحريري وكل من يتعامل معها في المنطقة أي تخاذل في تنفيذ مخططاتها، وهي تنظر لسعد الحريري على أنه مُلزم بطاعتها ولا يحق له ولا لغيره العمل وفق آرائهم الشخصية، ولهذا فهم يستحقون العقاب عند التخاذل وهذا بالضبط ما تقوم به السعودية في الوقت الراهن، وقد تشهد الأيام المقبلة تصعيدًا سعوديًا ضد الحريري وخاصة فيما يتعلق بشركة "سعودي أوجيه".