لم يكد نتنياهو يتفاخر بقدرات الكيان الإسرائيلي النوعية عسكرياً وأمنياً، لا سيما بعد اكتشاف النفق، حتى جاءه الرد الفلسطيني، من خلال عمليةٍ نوعية، لا بد من الوقوف عند دلالاتها لا سيما لجهة الزمان والمكان. وهنا فإن تحليل العملية يجب أن يأخذ بعين الإعتبار الوضع الإسرائيلي الداخلي، وتأكيد المسؤولين الصهاينة على الحاجة لخطةٍ أمنية ناجحة. فماذا في عملية القدس؟ وما هي دلالاتها المُهمة؟ ولماذا تعيش تل أبيب الخطر الأمني؟
العملية النوعية
انفجرت عبوة ناسفة في حافلة كانت تقل مستوطنين في القدس المحتلة، ما أدى إلى إصابة ما يقل عن 21 مستوطناً، في عملية تُعتبر الأولى من نوعها في الأراضي المحتلة، منذ انطلاق ما يُعرف بـ "الهبة الفلسطينية" في تشرين الأول الماضي. كما تضاربت الأنباء الإسرائيلية فور وقوع الإنفجار في القدس، عما إذا كان ناجماً عن خلل فني أصاب الحافلة، أو أن العبوة كانت موضوعة في حافلة فارغة وانفجرت لدى مرور الحافلة المليئة بالركاب. فيما أكدت الشرطة الإسرائيلية أن تحقيقاً أجراه خبراء في الشرطة أظهر أن العبوة انفجرت في القسم الخلفي من الحافلة وتسببت بحريق وأصابت ركابها. وأضافت الشرطة أن حافلة اخرى وسيارة مجاورة أصيبتا بأضرار جراء الإنفجار الذي وقع في شارع موشيه بارام المجاور للخط الذي يفصل الشطر الغربي من المدينة عن الشطر الشرقي. من جهته، أكد جهاز الشاباك أن الإنفجار ناجم عن هجوم إرهابي، في حين ذكرت أجهزة الإسعاف الإسرائيلية أن من بين المصابين الـ21 اثنين في حالة خطيرة، علما أن غالبية الجرحى أصيبوا بحروق.
تحليلٌ ودلالات
لا شك أن توقيت العملية ونوعيتها، تحتاج للتحليل، فيما يجب انتظار ما ستُبيِّنه الساعات المقبلة. لكن لا بد من الإشارة للتالي:
- جاءت العملية في وقتٍ كان فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يُحاول تطمين الداخل الإسرائيلي، لا سيما في ظل الأجواء المُتوترة التي تعيشها المستوطنات. فما لبث نتنياهو يتفاخر باكتشاف نفق يربط قطاع غزة بالمستوطنات المجاورة، متحدثاً عن تعزيز القدرات الأمنية والدفاعية للإحتلال لمنع اندلاع الهبة الفلسطينية مجدداً، حتى جاءه الرد الفلسطيني. وهو الأمر الذي يمكن ربطه بالعملية، للقول أن الجواب الفلسطيني لم يتأخر على الإطلاق. فالعملية تُعتبر نوعية، ولا بد من الوقوف عند زمانها ومكانها.
- من جهةٍ أخرة، تأتي العملية في وقت ساد فيه جوٌ عامٌ في تل أبيب عن تراجعٍ في الهبة الفلسطينية خلال الأسابيع الماضية. وهو الأمر الذي دفع المتحدث بإسم الشرطة الإسرائيلية ميكي روزنفيلد، للحديث قبل تأكيد بأن الإنفجار ناجم عن عبوة، عن خطرٍ أمنيٍ كبير يعيشه الكيان، فيما لو تأكَّد بأن الإنفجار ناجم عن عملٍ أمني. وهو ما يعني خروج المسؤولين الإسرائيليين، عن حالة الصمت، حتى وقوع الأزمة، والذي يدل على حجم الإرتباك والخوف الكبيرين.
- وهنا فلا بد من العودة الى ما كنا قد ذكرناه من تصريحات لرئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق بني غانتس في كلمته أمام معهد الأمن القومي، حول الوضع الإسرائيلي الداخلي، لا سيما هشاشة الأمن والتمييز الإجتماعي. وهو ما يُعتبر جديداً في الخطاب الإسرائيلي. وبالتالي لا بد من الإعتراف بأن الصهاينة يتميزون بتصويرهم لحقائق أوضاعهم، كما هي. وذلك لحاجتهم لتأمين إستمرارية كيانهم.
- لذلك نجد أن الجانب الإسرائيلي، يصمت عادةً عن المخاطر التي تتعلق بالجوانب الأمنية العسكرية، أو الجوانب التي قد تُشكِّل خطراً ظرفياً على الكيان. في حين يتعاطى العقل الإسرائيلي مع المخاطر التي تحوم حول مستقبل الكيان ووجوده المُهدَّد بجديِّة عالية. وهو الأمر الذي يُفسر السبب الرئيس وراء الإختلافات الكبيرة في الداخل الإسرائيلي، بين الجهات التي تهتم بالشأن السياسي، كنتنياهو، وبين الجهات التي تهتم بالمسائل الوجودية لكيان "اسرائيل" المزعوم.
- لكن هذا لا يعني بأن النُخب السياسية لا تضع في أولويتها مسألة وجود الكيان، لكنها تسعى للبقاء في السلطة والنجاح في الإنتخابات، والترويج للسياسات الحزبية. وهو الأمر الذي أحدث نقاشاً واسعاً في الداخل الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، حول ضرورة المسج بين المصالح القومية والأمن الوجودي. في حين يتبيَّن حجم التفاوت بين العقلين، مع كلِّ أزمة تضرب الداخل الإسرائيلي.
- ففي وقتٍ خرجت فيه السلطة السياسية والإعلام الموجَّه من قبلها، للحديث عن تراجع الهبة الفلسطينية بسبب ارتفاع القدرات الأمنية للإحتلال الإسرائيلي، خرج آخرون يُعتبرون من أدمغة الكيان الإسرائيلي، ليأكدوا على ضرورة إيجاد واقعٍ أمني يحتضن استمرارية المجتمع الإسرائيلي، يبدأ بالأمن وينتهي بالعدالة الإجتماعية. وهو ما أكده بني غانتس منذ أيام.
إذن جاءت العملية النوعية في القدس، لتؤكد مدى التخطيط المدروس الذي تعيشه الهبة الفلسطينية. فالتصعيد مُتقنٌ في زمانه ومكانه. أما الحديث عن تراجعه، فلم يعد قابلاً للطرح. إذ أن جانباً خفياً من المقاومة الفلسطينية، أراد إثبات نظرية المقاومة المستمرة عملياً، وليس فقط عبر الخطابات والبيانات. لنقول أن تل أبيب اليوم تعيش أزمة أمنها مرةً أخرى. في ظل وضعٍ إقليمي، تحاول أن تستثمر بعض عيوبه العربية لصالحها. لكنها سرعان ما تستفيق على حقيقة أنها تُخططٍ لمستقبلٍ ليس لها. فالمستقبل أثبت الفلسطينيون الشرفاء، أنهم هم من يُحدودنه. فالأرض أرضهم، وهم أصحاب هذه الأرض. ولن يستطيع من لا ينتم لوجود الدولة الفلسطينية، أن يستمر. فهل يمكن أن يقتنع بذلك المسؤولون الصهاينة؟