الوقت - منذ إندلاع الأزمة السورية قبل نحو 5 سنوات بُذلت محاولات إقليمية ودولية كثيرة لتسوية هذه الأزمة سلمياً، إلاّ أنها لم تصل إلى نتيجة بسبب التقاطعات في الإستراتيجيات والأهداف والمصالح للدول والأطراف المؤثرة في هذه الأزمة داخلياً وإقليمياً ودولياً.
فعلى الصعيد الداخلي هناك خلافات بين أطراف المعارضة السورية نفسها في شقّيها المسلح وغير المسلح بشأن كيفية التعامل مع هذه الأزمة، فالشق الأول يصر على مواصلة العمليات العسكرية لتغيير نظام حكم الرئيس بشار الأسد، فيما يعتقد الشق الثاني بضرورة مواصلة الحوار مع الحكومة السورية للتوصل إلى حل سلمي لهذه الأزمة.
أمّا على الصعيد الإقليمي فيمكن تقسيم الدول والأطراف المؤثرة في الأزمة السورية إلى قسمين رئيسيين؛ الأول: الداعم والمدافع عن بقاء حكم الرئيس الأسد، ويأتي في طليعته إيران وروسيا والكثير من فصائل المقاومة في المنطقة وفي مقدمتها حزب الله اللبناني، فيما تأتي تركيا وقطر والسعودية في مقدمة الدول الإقليمية التي تسعى لإسقاط حكومة الأسد من خلال دعمها للجماعات الإرهابية المسلحة خصوصاً تنظيم "داعش" و"جبهة النصرة".
أمّا على الصعيد الدولي فتأتي روسيا في مقدمة الدول المدافعة عن حكم الأسد، فيما تترأس أمريكا المعسكر الغربي الرافض لبقاء الأسد.
وتعتقد إيران أن سوريا تمثل حلقة الوصل بينها وبين حزب الله في مشروع المقاومة الرافض للهيمنة الأمريكية على المنطقة، فيما ترى تركيا في نظام الأسد حجر عثرة في طريق مشروعها للتوسع في المنطقة في إطار مساعيها لإحياء موروث الدولة العثمانية أو ما يسمى بـ "العثمانية الجديدة"، في حين ترى السعودية وقطر ودول أخرى في مجلس التعاون بأن نظام الأسد يجب أن يزول لأنه يرتبط بعلاقات قوية مع طهران وحزب الله الرافضيْن لمشروع "الشرق الأوسط الكبير أو الجديد" الذي تتبناه واشنطن وترغم الدول المذكورة على دعم هذا المشروع لترجمته على أرض الواقع.
ومنذ بداية الأزمة السورية سعت السعودية وبمساعدة أمريكا ودول غربية وإقليمية أخرى إلى توظيف هذه الأزمة لتصعيد الموقف مع إيران وتحريض الدول الحليفة لها ضدها مستفيدة من الخلافات بين طهران وبعض الدول الغربية بشأن البرنامج النووي الإيراني.
أمّا موقف تركيا إزاء الأزمة السورية فلا يختلف كثيراً عن موقف السعودية وقطر ودول أخرى في مجلس التعاون، بالإضافة إلى أنها لعبت دوراً کبيراً في تسهيل دخول الجماعات الإرهابية إلى سوريا وفسحت المجال لفتح مقرات ومعسكرات لتدريب العناصر المسلحة التابعة لهذه الجماعات، كما تحركت لإنشاء منطقة عازلة في شمال سوريا لتوسيع نفوذها في هذا البلد بحجة إيواء النازحين السوريين.
على الصعيد الدولي تحركت واشنطن والدول الغربية الحليفة لها منذ بداية الأزمة السورية لإسقاط نظام الأسد من خلال التنسيق والتعاون مع تركيا والسعودية وقطر، لكنها أُضطرت في الآونة الأخيرة إلى دخول المفاوضات مع روسيا من أجل تسوية هذه الأزمة سياسياً، وتنازلت واشنطن عن مطالباتها السابقة بتنحي الأسد عن السلطة كشرط لهذه التسوية إثر الإنتصارات الكبيرة التي حققتها القوات السورية على الجماعات الإرهابية، خصوصاً بعد مشاركة روسيا في ضرب مقرات ومواقع هذه الجماعات لاسيّما تنظيم "داعش".
في المقابل تحركت روسيا لدعم سوريا سياسياً وعسكرياً باعتبارها حليفاً إستراتيجياً لها منذ عقود خصوصاً على الصعيدين السياسي والعسكري من جهة، ولغرض مواجهة التنظيمات الإرهابية لمنع إنتشارها إلى مناطق أخرى من جهة ثانية، لاسيّما وإن روسيا بدأت تشعر منذ مدة بخطر هذه التنظيمات على أمنها وإستقرارها بسبب تغلغل العديد من الإرهابيين إلى أراضيها عن طريق حدودها مع بعض الدول المجاورة لها في آسيا الوسطى ومنطقة القوقاز ومن بينها الشيشان.
وتشعر روسيا كذلك بأن عدم مساندة سوريا في أزمتها الحالية قد يمهد الطريق لتقسيمها أو سقوط نظامها بيد الجماعات الموالية لأمريكا والغرب بصورة عامة، وهذا الأمر يهدد إستراتيجية موسكو الرامية إلى حفظ توازن القوى في المنطقة الذي تخلخل بشكل واضح خصوصاً بعد غزو أمريكا للعراق عام 2003 ومن ثم طرحها لما يسمى مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الرامي إلى تقسيم دول المنطقة ونهب ثرواتها والتحكم بمقدراتها.
ومن التحركات الأخرى التي أدت إلى تعقيد مسار الأزمة السورية وحالت كذلك دون توفر الأجواء المناسبة لحل هذه الأزمة سلمياً هي الإجراءات العسكرية التي إتخذتها كل من تركيا والسعودية لإرسال قوات برية إلى داخل سوريا، في وقت يفترض فيه أن تتوقف مثل هذه الإجراءات لتثبيت الهدنة بين الحكومة السورية مع المعارضة المسلحة التي نجمت عن الإتفاق بين روسيا وأمريكا ورحبت بها الكثير من الدول ودخلت حيز التنفيذ منذ أسبوع، والتي من شأنها أن توفر الأرضية الملائمة لعقد جولة جديدة من المفاوضات لتسوية هذه الأزمة في التاسع من الشهر الجاري حسبما أعلن المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا "إستيفان دي ميستورا".
مع ذلك؛ يبدو أن السبب الجوهري والمهم الذي حال دون تسوية الأزمة السورية سلمياً حتى الآن، يكمن في عدم جديّة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي في الإضطلاع بمسؤولياتهم القانونية لوضع حد لهذه الأزمة بسبب خضوع هاتين المنظمتين لإرادة بعض القوى الكبرى خصوصاً أمريكا التي تستغل نفوذها لفرض شروطها على هاتين المنظمتين من جهة، وتمنع الدول الأخرى من تفعيل القانون الدولي لحل هذه الأزمة وغيرها من الأزمات الإقليمية والدولية من جهة أخرى.
هذه التعقيدات والتشابكات والتقاطعات في الإستراتيجيات والأهداف والمصالح بين الدول والأطراف المؤثرة في الأزمة السورية داخلياً وإقليمياً ودولياً هي التي حالت وتحول حتى الآن دون التوصل إلى حل سلمي للأزمة السورية عن طريق المفاوضات.
أخيراً يمكن القول إن معطيات الأزمة السورية والمتغيرات الإقليمية والدولية المحيطة بها لا توحي بأن هناك بوادر في الأفق لتحقيق التسوية السياسية والسلمية لهذه الأزمة حتى وإن كان على نحو بطيء وتدريجي، سوى وجود ما يشبه الإجماع من قبل العديد من القوى الكبرى ومجلس الأمن الدولي على ضرورة تطويق إرتدادات هذه الأزمة على الأمن الإقليمي والدولي ومحاصرة تداعياتها ضمن النطاق السوري، وعلى رأس هذه الإرتدادات خطر الجماعات الإرهابية لاسيّما تنظيم "داعش" الذي يسيطر على أجزاء من سوريا والعراق، مع ما يشكّل ذلك من خطر على أمن الدول الغربية سواء في الوقت الحاضر أو المستقبل، وكذلك ضغط اللجوء والهجرة إلى البلدان الأوروبية الذي يشكّل لهذه البلدان تحديات إقتصادية وأمنية وإجتماعية وثقافية.