الوقت - لطالما اتخذت أمريكا وحلفاءها من ذريعة السلاح النووي منطلقاً لغزو البلدان وممارسة الضغوط ومواجهة الخصوم، ولعل أصدق مثال عليه ايران التي تعرضت لسنوات تحت وطأة حصار بحجة مساعيها لإمتلاك السلاح النووي، علماً ان كل زيارات وكالة الطاقة الذرية أكدت خلاف ذلك وأثبتت عدم وجود أي دليل على مساعي الأخيرة، إلى أن تم التوصل مؤخراً إلى الإتفاق الذي بموجبه رفع الحصار. في الجانب الآخر تعتبر الترسانة النووية الأمريكية أقوى ترسانة في العالم، بل وأكثر من ذلك فهي تعمل على تعزيز القدرات النووية لحلفائها، بموازاة ذلك لا تخلو بقعة من بقاع الأرض تشهد توتراً وصراعاً إلاّ ولها اليد الطولى فيها.
آخر التصريحات الأمريكية والتي جاءت على لسان "آشتون كارتر" وزير الدفاع الأمريكي قوله إنه لا بد لبريطانيا من الإحتفاظ بمنظومة الغواصات النووية "ترايدنت" والذي اعتبر فيه أن من شأنها أن تعزز دور بريطانيا العسكري دولياً. تجدر الإشارة إلا أن العمل المشترك بين البلدين في هذا المجال بدأ ببناء مقاتلات سترايك ثم برنامج ترايدنت النووي الذي من المتوقع أن يتم استكماله من الجانب البريطاني والذي قد تبلغ تكلفته 20 بالمائة من الناتج المحلي، تصريحات كارتر في هذا التوقيت تعكس جملة من الرسائل والأهداف التي سنعرضها في النقاط التالية:
أولاً: من المهم لأمريكا محافظتها على العلاقة الوثيقة بينها وبريطانيا، فهي تملك من خلالها نفوذاً واسعاً في الإتحاد الأوروبي، ولهذا تسعى الى تعزيز دورها عسكرياً وعلى الساحة الدولية للإستفادة منها كعامل ولاعب مؤثر في الكثير من القضايا، ومع وجود منافسة داخل الإتحاد الأوروبي، ومع وجود دور ونفوذ الماني متمدد على الساحة الأوروبية، فإن أمريكا تشعر بشبه قلق حيال هذه المسألة، ولهذا تحرص على تعزيز الرابطة العسكرية مع بريطانيا.
ثانياً: هذا يدل بوضوح على استمرار سياسة تهديد العالم نووياً، وهو تشجيع ودعم لحفظ توسعة السلاح النووي ومتناقض مع اتفاقية "ان بي تي"، وهذه السياسة هي التي دفعت إلى وجود حالة شبيهة لما قبل الحرب العالمية الثانية والتي تمثلت بسباق التسلح، ومن مصاديقها الأخرى ما يجري بين الجارتين الشمالية والجنوبية في كوريا والتي تدعم أمريكا فيه الثانية عسكرياً بما يشكل تهديداً للأولى. الجانب الآخر الذي تريده أمريكا من سياستها هو الحفاظ على تفوّق معادلة تزعزع الأمن والإستقرار في العالم، وهي ترى في ذلك تكميلاً لمشروعها من الجماعات الإرهابية في غرب آسيا وشمال أفريقيا.
ثالثاً: تندرج هذه التصريحات ضمن سلسلة الإجراءات الأمريكية في مواجهة روسيا والصين، خاصة وأن هذا التصريح قد سبقه اجراءات امريكية تمثلت بإطلاقها صواريخ ترايدنت من الغواصة التي تحمل اسم الصواريخ نفسها، هذا إلى التصريحات الأخيرة المتكررة من الجانب الأمريكي بخصوص ضرورة التصدي للخطر الروسي والصيني، آخر هذه التصريحات ما ادلى به كارتر في مكتبة ريغن في كاليفورنيا حذر به روسيا والصين، فأمريكا ترى في التحرك الروسي الأخير في سوريا والذي لم يأت لصالحها خطراً عليها، بالإضافة إلى الخلاف الأخير حول المسألة الأوكرانية، فيما تشعر أمريكا بالقلق تجاه الصين فيما يتعلق بإجراءات الأخيرة في بحر الصين الجنوبي.
رابعاً: الجدير ذكره أن تصريحات كارتر تأتي على مقربة من الإنتخابات البريطانية، خاصة وأن هذه التصريحات كان من شأنها أن تثير موجة من تبادل الإتهامات بين الأحزاب البريطانية حول آلية إدارة البلاد، فقد اعتبر بعض المسؤولين العسكريين أن انفاق مليارات الدولارات على مشروع استكمال وتحديث الأسلحة النووية يتطلب إعادة تفكير وتأمل، فيما اعتبر حزب الديمقراطيين الأحرار هذه الخطوة ضرراً على الإقتصاد البريطاني حيث من المقدر أن تكلف الخزينة ما يقارب من 154 مليار دولار فيما تشهد البلاد عجزاً ضخماً في الموازنة العامة، بينما أحزاب كالعمال المحافظين أيّدوا المشروع معتبرين أن هناك ضرورة تقتضي استبدال الغواصات النووية القديمة بالجديدة.
هذا الجدال والإختلاف بين الأحزاب حول مشروع الغواصات النووية قد يتحوّل إلى آلية ضغط في الإنتخابات وورقة بوجه الخصوم سياسياً ليُعمل على مفاوضات بشأن تشكيل حكومة ائتلافية. الجدير ذكره أن السياسة الأمريكية لا ترى من تعارض بين دعم حلفائها كبريطانيا وتقوية ورقتها على الساحة الدولية وبالخصوص الإتحاد الأوروبي وبين أن توجد شيئاً من الإضطراب فيها لجعلها منشغلة بملفات يمكن الإستفادة منها بترجيح الغلبة.
خامساً: هناك تعارض كبير بين سياسة أمريكا بتعزيز ترسانتها النووية وترسانة حلفائها من جهة وبين مزاعمها بضرورة وضع حد لإنتشار الأسلحة النووية، خاصة وأن نيويورك ستشهد الشهر القادم مؤتمر حظر الإنتشار النووي، وكأن أمريكا ترى بأن الحق لها فقط ومن يجري مع سياستها بإستخدام هذه التقنية دون غيرها، علماً أنها البلد الأكثر تدخلاً في شؤون الغير، والأكثر تهديداً لشعوب دول العالم، فالحروب التي شنتها على افغانستان والعراق خير شاهد، وخلقها جماعات الفكر الإرهابي في دول شرق آسيا والشمال الأفريقي، إلى دعمها ووقوفها إلى جانب الكيان الإسرائيلي في احتلال الأراضي الفلسطينية وجرائمه بحق شعبها والمسلسل في هذا الخصوص يطول.