الوقت - جاء إعلان كوريا الشمالية مؤخراً عن إطلاق صاروخ بعيد المدى يحمل قمراً صناعيّاً، كخبرٍ جعلها محط إدانة من قبل عددٍ من الدول. وهو الأمر الذي شكَّل صدارة المشهد السياسي الدولي. في حين ترأست واشنطن حملة الإدانات، معتبرةً أن هذا العمل يُساهم في زعزعة استقرار العالم، ويساهم في استفزاز وانتهاك قرارات مجلس الأمن الدولي. مما جعل الأزمة بين واشنطن وبيونغ يانغ تتصاعد، دون وجود أية حلول قد تلوح في الأفق حالياً. لكن الأمر الحاصل اليوم يأخذ منحاً خطيراً، على الرغم من أن التاريخ بين البلدين حافلٌ بالإستفزاز. في حين يُشير الكثير من المراقبين، الى أن اللغة التي تستخدمها بيونغ يانغ، لغة إستفزازية بإمتياز. وهو ما أكده مضيها في التجارب، وحتى رفضها الإستماع الى نصائح حليفتها بكين. فيما يبدو القلق واضحاً على واشنطن وحلفائها. فكيف يمكن قراءة المشهد المُتعلق بالأزمة المُستجدة بين كلٍ من واشنطن وبيونغ يانغ؟ وإلى ما قد تؤول الأمور؟
العلاقة بين البلدين: تاريخٌ من الإستفزاز
يمتد تاريخ الإستفزاز بين أمريكا وكوريا الشمالية لما بعد نهاية عام 1953، أي ما يقارب 63 عاماً. لكن وتيرة الإستفزاز ارتفعت عام 2002، منذ أن قامت بيونغ يانغ بالإعلان عن امتلاكها لما يسمى بالقدرات الصاروخية البالستية، العابرة للقارات والتي من الممكن أن تحمل رؤوساً نووية. واستمرت حالة القلق والإستفزاز حتى قيام بيونغ يانغ في كانون الأول من العام الماضي، بالإعلان عن تطويرها قنبلة هيدروجينية. ولم تكتف بيونغ يانغ بذلك بل وعلى الرغم من تعالي أصوات الإدانة لا سيما من واشنطن وحلفائها الآسيويين، تحديداً كوريا الجنوبية واليابان، أصرت كوريا الشمالية على القيام بتجربة بالستية. وهو الأمر الذي اعتبره الكثير من المحللين رداً واضحاً على واشنطن. في حين اعتبرت بيونغ يانغ ذلك، جزءاً من الشأن المتعلق بأمنها القومي. لكن التحرك الأمريكي لم يقتصر على الرد الكلامي واطلاق المواقف، بل تم عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن في الأمم المتحدة حول هذا الموضوع. كما سارعت واشنطن لتشكيل لجان عملٍ مغلقة، تقوم بمشاورات مع كلٍ من كوريا الجنوبية واليابان، وتهدف لدراسة كيفية الحد من نشاط كوريا الشمالية.
من الإستفزاز الى الخيارات العسكرية:
لا شك بأن تاريخ الإستفزاز يحمل العديد من الدلالات، لكن الحاضر الذي يتضمن تحركاتٍ تخطت الكلام الى مرحلة العمل التنفيذي، لا بد من أن تؤخذ بعين الإعتبار. وهنا في محاولةٍ لتحليل المشهد نُشير للتالي:
- تعتقد واشنطن بأن امتلاك دولةٍ ككوريا الشمالية صواريخ بالستية يصل مداها إلى 9000 كيلومتر، هو من الأمور التي تهدد الأمن القومي الأمريكي بشكلٍ مباشر. مما يُحتم عليها إيجاد كل السبل الكفيلة بردعه، على الصعد الدبلوماسية، دون استبعاد الخيارات العسكرية في حال تطلب الأمر ذلك. وهو ما أكدته واشنطن من خلال ردها العملي على التجربة الهيدروجينية نهاية العام الماضي، عبر إرسالها قاذفة قنابل تستطيع حمل رؤوس نووية إلى المجال الجوي لكوريا الشمالية، في رسالة مفادها أن استعداد واشنطن للعمل العسكري ضد بيونغ يانغ أمرٌ وارد، في حال تطلب الأمر ذلك.
- وهنا نقول بأن حالة الهلع التي تعيشها واشنطن وحلفاؤها الآسيويون، هي حالة حقيقية. فهي وجدت نفسها تتعامل مع طرفٍ ليس مُستعداً لإحترام ما يُسميه الخبراء الأمريكيون بحسب وجهة نظرهم، الخطوط الحمراء لموازين القوى الدولية. وهو الأمر الذي دفعها الى جانب حلفائها الآسيويين كاليابان وكوريا الجنوبية، لدراسة كيفية إحتواء قدرات بيونغ يانغ المُخيفة. ويستند هلع واشنطن وحلفائها، الى التقرير الذي أظهرته دراسة أجراها معهد الدراسات الدولية في جامعة جون هوبكنز الأمريكية، والذي أشار الى أنه وفي حال استمرت تجارب كوريا الشمالية بهذا النحو، فإنها ستمتلك ترسانة قوامها 100 صاروخ بالستي بحلول العام 2020. مما يجعل فرضية إضافة عقوباتٍ تكتفي بالنطاق الإقتصادي على كوريا الشمالية، أمراً غير مُجدٍ.
- من جهتها لم تكتف بيونغ يانغ بالقيام بالتجرية، بل نقلت وكالة الأنباء الرسمية لكوريا الشمالية، إعلان بلادها عن أن مدى الصواريخ يمكن أن يصل الى أمريكا. ولعل لغة الإستفزاز التي تعتمدها كوريا الشمالية، تحتوي في مضمونها على شعورها بأنها تحت تهديد دائم ومباشر منذ نهاية الحرب الكورية وحتى اليوم، بسبب وجود القوات الأمريكية بشكل مركز على الحدود بينها وبين جارتها الجنوبية، بالإضافة إلى العقوبات الإقتصادية المستمرة والمفروضة عليها منذ العام 2002. وهو ما يدفع العديد من الخبراء للقول بأن هذه الأسباب هي ما يدفع بكوريا الشمالية، لتحديث وتطوير برامج التسلح الخاصة بها، ومحاولتها فرض ما يمكن تسميته بالهيمنة الإقليمية والدولية عن طريق تطوير برنامجها النووي. في محاولةٍ لفرض نفسها كواقعٍ قويٍ على الصعيدين الإقليمي والدولي.
- من جهةٍ أخرى فإن العلاقات الصينية أخذت بالتوتر أيضاً مع كوريا الشمالية، بعد أن أعربت بكين عن قلقها من التجارب التي تجريها بيونغ يانغ. وهو الأمر الذي لا يُخفي تدهور التقارب بين البلدين، بل يهدد الدعم الصيني لكوريا الشمالية. فبحسب الخبراء، فإن ما تقوم به كوريا الشمالية من تجارب الى جانب سلوكها الدبلوماسي الإستفزازي، يشكل مزيداً من الضغوط الدبلوماسية على بكين. فالأخيرة طالبت وبشكلٍ رسمي بيونغ يانغ، بعدم إجراء عملية الإطلاق الأخيرة لوضع حد للتوتر الدبلوماسي. وهنا نُشير الى أن ذلك لا يُعتبر تقارباً بين الصين وواشنطن فيما يخص الأزمة مع كوريا الشمالية. بل إن أداء بيونغ يانغ، يُعتبر فاقداً لإحترام موازين القوى العالمية، والتي تضع سقفاً للأداء الدولي.
إذن يُعتبر التوتر القائم بين واشنطن وبيونغ يانغ أمراً مُقلقاً لجميع الأطراف الدولية. كما أن الأزمة بين الكوريتين تعود لترتفع وتيرتها. لكن المشكلة تزداد مع ارتفاع اللغة الإستفزازية لكوريا الشمالية، واللغة الإستغلالية لواشنطن. فبيونغ يانغ أقفلت كل الحلول الدبلوماسية لا سيما مساعي الصين، وهو الأمر الذي قد يُفقدها حليفتها بكين. في حين أعلنت من خلال إصرارها على التجارب، تمرُّدها على أمريكا. وهو ما يجعل المشكلة بين الأطراف في تزايد مستمر. وبالتالي فقد تلجأ واشنطن للخيار العسكري، لسببين. الأول دفاعها عن أمنها القومي وهو الحجة المعتادة. وثانياً، وقوفها الى جانب حلفائها لأن ذلك يُشكل في الحاضر مصلحةً لها. في وقتٍ قد يعرف فيه الجميع متى يبدأ الإشتباك، لكن مفاعيله لن تكون محدودة. وهو الأمر الوحيد الذي قد يدفع الجميع نحو التروي المُستبعد.